ترن في اذني جملة تكررت في طفولتي ألا وهي، لا تبكي فالرجال لا يبكون وبالمصرية يقولون الرجالة ما تعطيش، وفي قول أخر انشف وما تبقاش خيخة، وبتعيط يا خبيتها!!!!، الى أخره من الاقوال التي تقلل من شأن الرجل الذي يبكي وتوصم رجولته بالعار.

من منا لم يسمع في صغره جمل على شاكلة المرأة فقط هي التي تبكي، اخشوشن فالبكاء ليس للرجال، كن رجلا ولا تبكي.

في الحقيقة كنت أسأال نفسي كثيرا في طفولتي، ما الذي يجعل البكاء محرما وجريمة لصبي في السادسة من عمره!!!!!

هل لو بكى ذكر في السادسة من عمره مثلا، فأنه سيموت أو ستطول أنفه، أو تقصر قامته أو يسخط قردا!!!!

هل الذكر الصغير ليس كائن حي طبيعي، يفرح ويحزن وينفعل ويغضب، كيف ان نلغي عاطفة وانفعالا إنسانيا من الكتالوج او القاموس الخاص به، وإذا لغينا هذا السلوك الإنساني فبماذا نستبدله؟ هل مثلا ممكن ان يتبول بكميات إضافية لتعويض الدموع المحبوسة !!!!؟، عشرات الأسالة الكوميدية الساخرة التي كانت تدور في عقلي، ولكني لم أكن أجرأ ان أطرحها حتى لا أكون مجالا للسخرية والتنمر.

وعندما كبرت أكثر بدأت أحلل هذا التفكير وأغوص أكثر في التفاصيل لفهم الموضوع، فدعنا نبحر قليلا في بعض التفاصيل ونحلل الموضوع من زوايا مختلفة

البكاء من وجهة نظر الدين

في الحقيقة أنى لم أجد في اطار القران والسنة أو التراث ما يشير الى تحذير الرجل من البكاء أو عدم استحبابه الا اذا كان يعكس حالة الجزع وعدم الرضا عن قدر الله، بل على العكس تماما، تمت الإشارة في مواطن متعددة الى البكاء كدليل على الخشوع وكمال العبادة، وسلامة قلب الرجل وخلقه

قال الله تعالى في سياق الثناء على الأنبياء عليهم السلام: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:٥٨]

وعن عبد الأعلى التيمي قال: “إن مَن أوتيَ من العلم ما لم يُبكِه لخليق ألا يكون أوتي علمًا ينفعه، لأن الله نعت العلماء

وقال تعالى {... إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: ١٠٧ - ١٠٩] [١]

يروَى عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال:" إذا قرأتم سجدة {سُبْحَان} فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبكِ عينُ أحدِكم؛ فلبيك قلبه "

وقال تعالى منكرًا على المشركين: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [١] [النجم:٥٩ - ٦١]

وعن عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه - قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلِي، وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء..

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:" لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُل بَكَى مِنْ خَشْيِةِ الله حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْعِ، وِلاَ يَجْتَمعُ غُبَار في سَبِيلِ الله وَدُخَانُ جَهَنمَ

وعن أبن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:" عَيْنَانِ لَا تَمسُهُمَا النَّارُ: عَيْن بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَينٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ في سَبِيلِ اللهِ

[الأعراف:٥٥] ... {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وقال تعالى أيضا

--------. وبكى صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة، فقد بكى رحمة لأمته، روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. وقول عيسى عليه السلام: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك، فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله يا جبريل: اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك..

وكان صلى الله عليه وسلم يبكي لما يصيب أصحابه من المرض والبلاء شفقة عليهم، ففي البخاري: أن سعد بن عبادة اشتكى فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده في غاشية أهله، فقال قد قضى؟ قالوا: لا، يا رسول الله، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا.

وبكى صلوات الله عليه عند مقتل حمزة، وعند مقتل جعفر، وعند وفاة ابنه إبراهيم، وعند وفاة ابن لإحدى بناته، وبكى عندما زار قبر أمه وأبكى من حوله، وبكى عندما وقف على شفير القبر في جنازة أحد أصحابه، وبكى لما نزل قول الله تعالى لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - سورة الأنفال أية 68

في الحقيقة فأن المجال لا يتسع لذكر كل المواطن القرآنية وفي السنة التي تمدح المسلم البكاء من خشية الله عموما والرجل خصوصا، لأنها قد تحتاج لمقالات عدة وليس مقالا واحدا

البكاء من وجهة نظر الصحة النفسية

يؤكد الأخصائيون مرارا وتكرارا أن البكاء يدعم الصحة النفسية بصفة عامة، حيث

• يخلص البكاء الشخص من المشاعر المكبوتة، خصوصا مشاعر الحزن والتوتر ويقلل البكاء الشعور بالآلام والحزن الشديد.

• يفرز البكاء هرموني الأوكسيتوسين والإندورفين اللذان يساعدان جميع الفئات العمرية على التخلص من المشاعر السلبية، تعزيز المزاج ودعم هرمون السعادة على الدوام.

• يساعد البكاء جميع الفئات العمرية على النوم المريح لتخطي الأزمة التي يمرون بها,

• يحسن البكاء رؤية العين لجميع الفئات العمرية خصوصا كبار السن التي يقل نظرهم مع التقدم في العمر.

كما كشفت نتائج دراسة نشرت في المجلة العلمية " Emotion"، أن البكاء من شأنه أن ينعكس بالشكل الإيجابي على الصحة العامة والنفسية على حد سواء.

• أكدت معظم الدراسات الحديثة أن البكاء يخلص الجسم من السموم، يعمل على تقليل التوتر والأمور النفسية الصعبة.

• أفاد العديد من الباحثين أن البكاء يعمل كآلة تساعد الجسم على عملية التأقلم مع الظروف التي يتعرض لها وذلك بسبب التغييرات النفسية التي تحدث خلال البكاء.

• أشارت معظم الدراسات الحديثة أن النساء أكثر عرضة للبكاء من الرجال.

• أكد الطبيب النفسي البريطاني الشهير هنري مودسلي، أن كبت الحزن وعدم التنفيس عنه بالبكاء، قد يؤذي سريعا سائر أعضاء الجسم.

• أوضحت معظم الدراسات الحديثة أن البكاء يزيد من معدل التنفس ونبضات القلب بالشكل الطبيعي

البكاء من وجهة نظر المنطق والتفكير العام

من المنطقي أنه عندما يواجه الأنسان حدثا جلل يحرك مشاعره، ان يتفاعل معه سواء كان هذا الانسان ذكر او انثى قد يكون هذا الحدث فقد عزيز، او عرض يثير شجنه او محنة او حتى موقف لا يجيد التصرف معه

في الحقيقة ان مجتمعاتنا العربية الشرقية متفردة في كثير من العادات والتقاليد والأعراف، التي تبدو عندما تحللها غير منطقية وغير واقعية، فما الذي يجعل انسان طبيعي محروما من البكاء لمجرد انه صبي وليس بنت، ولمجرد انه عربي!!!!

قد يبدو هذا منطقيا فقط عندما نتعامل مع دراكولا!!!

كل مما سبق دفعني لطرح يعض الأسالة محورية أتمنى ان تعيشها وتلمسها معي

ماذا لو كان الرجال العرب يبكون؟ وانهم لم يربوا على تحريم البكاء

لك أن تتخيل وتغوص في التفاصيل، تخيل رجلا طبيعي يبكي لأنه رمى محصنة بالباطل، أو رمى جاره بلفظ مشين، أو ضرب ابنه ضربا مبرحا بدون داعي، أو أهان زوجته دون وجه حق، أو ظلم مرؤوسه، أو مارس العنصرية ضد انسان بسبب لونه، او جنسيته، او دينه، او نوعه، او وظيفته او حتى حالته المادية، أو اختلس وتكسب مالا لا يستحقه ......الخ

هل تخيلت مدى انتشار الفضيلة والأخلاق في الشارع العربي؟

هل تخيلت في يوم بكاء مسؤول عربي لأنه لم ينجز المهمة المطلوبة منه على الوجه الأمثل وبدد الأموال وأشاع الفساد؟ ماذا لو هذا يحدث

هل تخيلت في يوم بكاء الشباب العربي لاحتلال أراضيهم في بقاع متفرقة وانتهاك المقدسات؟ ماذا لو حدث

هل تخيلت في يوم بكاء حاكم لأنه أفقر شعبه أو لتبديده أراضيه أو لإزهاقه روحا بدون وجه حق او لسجن انسانا ظلما ؟ ماذا لو يحدث الشيء الطبيعي ويبكون

هل تخيلت شعوبا تخرج في جماعة يبكون في نفس الوقت والمكان كمدا على ما آلت اليه بلادهم!!!

الى هنا ينبغي ان نكف عن التخيلات، لأن خيالانا عند حد معين قد يكون محرما كالبكاء

عزيزي لا أخفيك سراأنه من الطبيعي جدا أن تربي ابنك الصبي أن الرجل ليس عصيا على البكاء، لابد للرجل أن يبكي عندما لا يكون على قدر المسؤولية والأمانة، ويستحضرني هنا المقولة الخالدة لعائشة أم الأمير أبو عبد الله محمد الثانى عشر المعروف بأبي عبد الله الصغير، آخر ملوك الأندلس الذي سلم غرناطة للملك فرناندو والملكة إيزابيلا، ليطوى صفحة سبعة قرون ويزيد من الوجود الإسلامي سطرت خلالها معالم الأندلس الذي تتغنى به الحضارات إلى الآن.

ابكِ كالنساءِ ملكاً لم تدافع عنه كالرجال ""

أقولها لكم وكلي ثقة ومتحديا كل العادات والتقاليد والأعراف البالية “البكاء من شيم الرجال"

الرجل الذي مازال يملك ضميرا حيا ويعاتب نفسه، ويتأثر لحال نفسه وأهله وبلده وأمته، وذلك أضعف الايمان