سماء لا تعرف التحليق - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

سماء لا تعرف التحليق

  نشر في 29 غشت 2015 .

في إحدى صباحاتِ تموز الحارقة, قررتُ أن أرفه عن نفسي بإجازة سنوية, بعد أن ادخرت جل رفاهيتي لموسم كامل, مقررا السفر إلى قبرص الجميلة. لحضارتها شبه العربية, وتفاصيلِ حياتها الأوروبية، قبرص , بلد يُبهرك بأماكنه السياحية. لطالما طالعتُ إعلانات الرحلات إليها, والتي تنظمها بعض شركات السياحة العاملة هنا.

أخبرتُ بعض الأصدقاءِ؛ علهم يشاركونني إسبوعاً من المتعة .. ” فالجنة بدون ناس ما بتنداس” جهزت حقيبةً صغيرةً, تكفِي لقضاء أسبوعٍ من المتعَة, وتجديد الروح، عبرَ هاتفي الصامت حجزت مقعدا على أول طائرة مغادرة إلى جمال قبرص .

في السادسة من اليوم التالي اتجهتُ وبعض الأصدقاء إلى رفح; حيث مطار غزة الدولي. أو كما يحب أن يسمّي سكانُ غزة مطارهم الوحيد ( بمطار ياسر عرفات ) .

في رهبة مطار الياسر سرنا بعض الخطوات, تحفنا الحضارة الشرقية كاملة، برائحتها, تفاصيلها, براعتها, هندستها إتقانها, وعراقتها. للوهلة الأولى من دخولك المطار تشعر أنك في مطار الدار البيضاء, بالمغرب العربي. لشدة التشابه في الهندسة المعمارية.

استقبلنا رجلٌ جميل المظهر لا تفرق بين بياض ملابسه وبياض القباب المعمارية, ختم الجوازات وفحص تذكرة الطائرة بينما رمقتُ بنظرة إعجاب ـ بالقرب من قلبه ـ دبوس يشير للخطوط الجوية الفلسطينية، ثغرهُ باسمٌ، يداه أنيقتان وهما تختمانِ الأوراق, بينما يخاطبنا بحديث لبق وسريع لا يشعرك بالملل مطلقا .

وأنا أتفقدُ بعض الرفوفِ في السوق الحرة القريبة من صالة الانتظار, تسلل لمسامعي صوت نسائي جميل يقول:

” النداء الأخير للرحلة رقم (205) والمتجهة إلى قبرص, يُرجى من الركابِ التوجه للبوابة (رقم 5) استعداداً للصعودِ إلي الطائرة مع تمنياتنا لكم برحلة سعيدة “.

خرجنا من البوابةِ المخصصة إلى باص يخلو من المقاعد تقريباً، سرنا مسافة بسيطة عبر المدرج حتى وصلنا للطائرة، على باب الطائرة, تستقبلكَ مضيفة الطيران بزيها الأزرقِ يزين عنقها الكوفية الفلسطينية, جميلة هي ، جل ما تشعر به جمالها الفاتن! سرعان ما باغتنِي صديقي غامزاً لي بطرف عينه : ” يخرب بيت اليهود ما أحلاها مختارينها عالفرزاة ” فيما كانت عيناي تراقب حركاتها, وكيفية توزيعها للركاب, فتضفى راحةً نفسيةً غامرة. سيما لأولئك الذين يطيرون لأول مرة في الهواء.

جلسنا في أمكاننا المحددة، كان مقعدي بجوارِ شبّاكِ الطائرة . بصراحة لم أحلم بأكثر من ذلك, وأنا أطير فوق المتوسط الجميل, ها هو كابتن الرحلة عبر الميكرفون الخاص بقمرة القيادة يحدثنا متمنياً لنا رحلة سعيدة, على متن الخطوط الجوية الفلسطينية, بينما وزع المضيفون على ثلاثة أماكن في الطائرة: ( المقدمة والوسط والمؤخرة ). موجهين جملة من نصائحِ الأمان للركابِ, في حال حدوثِ مكروه ـ لا سمح الله ـ أثناء الرحلة ويؤكدون على ضرورة ربط حزام الأمان قبل الإقلاع, وبين الفينة والأخرى يوزعون ابتساماتهم الجميلة.

لحظاتُ سير الطائرةِ على المدرج حتى انطلاقها للجو لحظاتٌ رائعة بخوفِها, بجنونها, وروعتها. وتبقى التجربة الأولى فيها مصاحبةً لك في كل رحلة طيران ( الانطباع الأول يدوم ).

بضعُ دقائقٍ كانت كفيلةً أن نترك غزةَ خلفنا! والعين تبصِرها من زجاج النافذةِ الشمال. وقد تشكلت لوحة فنية يلتقي فيها الشاطئ, بمساحتها العمرانية, والشمس في ساعة الغروب زادتها جمالاً. أشعر وكأنك معي في الرحلة، أنت لا تعرف الطائرة! ولم تطر ولو لمرةٍ واحدة؟ حسناً, في الطائرة إذا نظرت لأعلى تجد ثلاثة أزرار, لكل منها وظيفة: أحدها للإنارة, وآخر لطلبِ المساعدة, والآخر قد يكون للتكيف, وذلك حسب صنع الطائرة والدرجة التي حجزت بها للرحلة.

عموماً الرحلةُ من غزة إلى قبرص, لا تتجاوز الساعة بحد أقصى .. أطفأتُ زر الإنارة وسهوت قليلاً, وقفزت بتخيلاتِي خطوات إلي الأمام, جلت سريعاً في أبرز الأماكن التي سنزورها, الصور التذكارية التي سنلتقطها, الطعام الذي سنتناوله, السهرات الممتعة التي سنقضيها, والهدايا التي سنعود بها إلى الأهل والأحبة.

يبدو أن مطباً هوائياً أيقظني. لا إنه مطبُ الواقع الذي نحياه. أوقف سيل تخيلاتي! رجل في العقد السادس من عمره, عندما ألقى علي السلام وسألنِي عن سبب وقوفي في مكان خالٍ, مدمر؟ فقلت له: أبداً كل ما هنالك أني رغبتُ أن أعيد ذكرياتي الجميلة عندما كنا نملك مطاراً, كان ذلك يا عمِّ قبل ستة عشر عاما تقريباً.

لحظة من الصمت عمتْ المكانُ قبل أن يخبرنِي أنه كان أحد العاملين في المطارِ ثم تابع صحيح لم تكن وظيفتي مرموقة, ولم أصعد الطائرة يوماً ما لكن كنت أعرف كل شيء عن المطار. ” إيهِ يا بني” لم يستمر الحلم سوى ثلاث سنوات, وبعدها استمروا فى قصف أحلامنا, سنوات طويلة كانوا يدركون أنه مطار سيادي لذلك محوا معالمه كاملة.

أخبرني أن المطار كان قادراً على نقل (700,000) مسافرٍ سنوياً وكان يعمل 24 ساعة على مدار اليوم، بحركة خفيفة من يديه, تنمُ عن حب للمكان، أخبرني أنه يقع على ارتفاع (320 قدم)، أي: (98 متر) عن سطح البحر.

يبلغ طول مدرجه (3,076) متراً. يوجد في المطار (19) مبنى. المبنى الرئيس في المطار مساحته (4000) متر مربع، مصمم وفق العمارةِ الإسلامية ومزخرف بالقرميد المغربي, طاقم موظفي المطار يضم (400) شخص فقط, يعملون كخلية نحل لا تكل ولا تمل, كانوا يدركون أنهم جزء من سيادة هذا الوطن.

خيم الصمت مرة أخرى, وتخيلت أن المليون وثمانمائة غزىّ يحلمون بمطار ومعبر وميناء ليسافروا في أي وقت, وإلى حيث يريدون, وشعرت بمدى االسخط في قلوبهم, وبمدى ما تجنيه الأنظمة التي تحاصرنا من ويلاتٍ, ولعنات, جراء ظلمهم للفلسطينيين، تخيلتُ كيف يرفرف قلب الفلسطيني في العواصم العربية حباً للسفر والمعرفة.

لا شيء يردُ صدى الأصواتِ والقهر في عقلي سوى قول الشاعرِ:

إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر

ولابدَ لليل أن ينجلـــي ولابد للقيد أن ينكسـر

ولا بد أن ينتهي السجن المسمّى “غزة”.


  • 3

   نشر في 29 غشت 2015 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا