من أهم ما يواجهه العالم في الوقت الراهن هو القوالب الجاهزة التي يحاول الجميع أن يحشر نفسه فيها.. بغض النظر ان كانت تناسب مقاسه..
يبدو لك و للوهلة الأولى ان لا احد يريد أن يشبه نفسه .. او يكون نفسه..
و انا افهم هذا فإن تكون نفسك في عالم يرفض الإختلاف بطبيعته هو امر معقد وصعب.. ممكن أن يطول و يستهلك وقتك و جهدك و حياتك و ربما لن يجدي نفعا و لن يحقق احلامك المادية و المعنوية و لن يصفق لك الجمهور الذي يتابع خطواتك في النهاية ..
انا افهم ان يتغير الانسان و يتكيف وفق ظروفه و حياته.. ففي النهاية الحياة ليست مثالية و الخيارات مفتوحة و تزداد انفتاحا و اتساعا كل يوم .. و في بعض الأحيان يصبح هذا التحول و التغير ضروريا و ملحا و مسألة حياة او موت..
انا اتفهم ان تتغير مرحلتك العمرية.. او ظروفك المادية.. او الاجتماعية.. فتجد نفسك مجبرا على مجاراة بعض هذه التغيرات او كلها بما يتناسب مع وضعك و حياتك ..و في اغلب الأحيان تكون هذه التغيرات عقلانية، منطقية، إيجابية و ناضجة..مبررة و مقبولة.
و من الطبيعي انك عندما تتقدم في العمر .. يزداد فهمك و يتفتح وعيك و تتسع مساحات التفهم و الادراك في عقلك.. لكن شيئاً ما منك يبقى.. مُثلك.. مبادئك.. شخصيتك.. تربيتك.. ميولك..
لابد أن شيئا ما يبقى ..
انت لا تتغير بالكامل و تصبح إنسانا مختلفا الا اذا كنت إنسانا غير طبيعي بشكل ما.. و ربما انت بحاجة للعلاج..
لنفترض انك مررت بتجربة قاسية .. لم يستوعبها عقلك الانساني .. و لم يستطع ان يتحملها وعيك.. و كأي صدمة من المنطقي ان تصهرك و تذيبك و تبخر حقيقتك الأولى و تخلق بعدها انسان اخر لا يمت للأول بصلة..
و من الطبيعي بل من الضروري ان تتغير بعدها حتى تتمكن من الاستمرار.. و من البديهي ان تتغير وجهتك.. و ان تبحث عن طريق اخر تسير فيه.. و ان تحتاج لخطوة جديدة تسرع انطلاقتك.. و ان تجد اساسا جديدا تبني عليه حياتك ..
لكن في مرحلة ما بعد ذلك.. انت ايضا ستبحث عن الثبات بعد ان تلم شتاتك.. و تحدد وجهتك ..
و لهذه القصص امثلة كثيرة شهدناها تحدث في الحياة للكثير من الناس و كان التعاطف معهم اكبر كثيرا من الحكم عليهم ..
كل هذه الصراعات و التحولات اتفهمها بشدة و انادي بها و بالتاكيد انا لا احكم عليها باي شكل من الاشكال..
لكن ان تتغير توجهات انسان عاقل ناضج بالغ يعيش حياتاً عادية نسبياً و تتلون قناعته الشخصية و مواقفه و مبادئه التي تشكل وجدانه باستمرار وفق مصلحته الحالية.. و يتعامل مع الحياة كمرتزق، هو ما كنت افشل دائما في فهمه او احترامه..
و عندما حاولت ان افهم .. اكتشفت ما يسمى ب "الشخصيات الحربائية" .. و هي شخصيات تعاني من ما يسمى تأثير الحرباء Chameleon Effect ..و هو عرض جانبي ل "اضطراب الشخصية الحدية" borderline personality disorder.. و هو كما نعلم جميعا مرض نفسي يحتاج للعلاج ..
الشخصية الحربائية شخصية ليست سوية، لكنها مريضة كامنة و اكتشاف ذلك امر صعب حتى على امهر المختصين لانها شخصية عنيدة غير متعاونة و في الغالب تبدو عادية و طبيعية و لاتميل للعنف و هي بالطبع غير مدركة لمرضها و بالتالي لن تعترف به بسهولة ..
و لانها تبدو طبيعية بالنسبة لمجتمع يحارب الإختلاف و يصدر القوالب المتشابهة و يشجع المصالح و المكاسب و المنافسة بين افراده و يفشل في الانتصار للمبادئ و القيم فيصبح من المستحيل تشخيص هذه الشخصيات ..مما يتيح لهذه الشخصيات المريضة ان تندمج مع الاصحاء و تشعرهم بالنقص و الفشل و الخسارة فيما تتظاهر هي بالكمال و تتباهى بالفوز و باحراز النجاحات المتتالية..
و عليك انت ان تميز هذه الشخصيات و ترصد سلوكها كي لا يتأثر تقييمك لنفسك او في اسوء الاحوال سلوكك..
من الصفات المشتركة التي تجمع هذه الشخصيات و التي يمكن تمييزها بسهولة..التذاكي لضمان النجاح.. الشخصيات الحربائية لصوص شرعيون .. يفضلون سهولة الاستقرار في قوالب مجانية جاهزة من دون الضرورة الى خلق قوالب جديدة خاصة و تجربة النجاح او الفشل..
حب نرجسي للذات.. جميع الشخصيات الحربائية شخصيات مولعة بحب نفسها و ترى في اي موقف عادي تهديد لحياتها و مكانتها و لذا من الضروري اتخاذ احتياطات لازمة للبقاء في المقدمة.. مهما كلف الامر..
التفاخر.. الشخصيات الحربائية تتلون لانها تريد أن تحظى بالقبول و تتفاخر لانها تشعر بالضآلة و الدونية و تعاني من انعدام الثقة في نفسها و فقدان الشعور بالامان تجاه سلوكها و قدراتها، لذا فانها تتوق لرؤية نظرات الفخر و الاعجاب و ربما الغيرة في عيون الآخرين
نقص .. الشخصيات الحربائية تعاني من حرمان ما في جانب من جوانب الحياة.. نقص معين هدد وجودهم في مرحلة بعينها و ترك بداخلهم فجوة عميقة بلا نهاية، نقص قديم افرز شعوراً مجنوناً بالجوع و الخواء و اخذ يحركه الطمع باستمرار، محاولاً ملئه بالمكاسب اي كان نوعها..
لكن المفارقة الغريبة ان كل مرة تمتلئ فيها هذه الفجوة بالمكاسب فان شعور هذه الشخصيات بالنهم و الفراغ يتسع اكثر و اكثر حتى يبتلعهم في النهاية..
التعصب.. الشخصيات الحربائية شخصيات متعصبة لارائها الانية بشكل مرضي .. طالما كانت هذه الفكرة مثمرة و مربحة بالنسبة اليهم.. فهم اشد معتنقيها ايمانا بها..ثم يتغير كل ذلك فجاة أن وجدوا فكرة آخرى تخدم مصالحهم اكثر.. فتجدهم يتمسكون بالفكرة الجديدة بجنون و يحولون جهودهم لمحاربة نسخهم القديمة بشراسه..
اما عن امثلة الشخصيات الحربائية.. فالامثلة كثيرة جدا .. و لا يمكن ان احصرها في بضعة اسماء..
لكن ما أود اخبارك به فعلا .. انت و اي انسان عادي اخر يشعر بانه متواضع و مهمش و ضعيف لانه يكتفي بنفسه .. و ياتي صوته من راسه.. و يعاني من شخصية واضحة المعالم لا تتلون كالحرباء..
اريد ان اخبرك انه مهما كان تصورك عن نفسك غريبا و مجنونا و بشعا.. فانت انسان سوي و هذا في حد ذاته معجزة الهية عليك ان تشعر بالامتنان تجاهها في كل لحظة.. و انت ناجح ان نجحت في فهم نفسك.. و قوي ان تمكنت من الاحتفاظ بمبادئك.. و غني بتجاربك التي مهما تغيرت لم تغيرك بل ظللت ثابتا في وجهها كالجبل تواجه الريح..
و انك مذهل..ان تعرضت للخيانة و ظل قلبك كبيرا بالوفاء..
و عظيم..ان داهمك الفقر و ظلت نفسك غنية بالكرامه..
و مبهر ان تغير العالم حولك و سرت معه متشحا بمبادئك..
و مدهش انك تتنفس الأكاذيب في كل لحظة و ما زلت محتفظا بصدقك ..
اريد ان اخبرك كم احترم امثالك و اشعر بالفخر ..
لأنك لا تغير جلدك وكلماتك كلما اقتضت المصلحة..
اريد ان احييك..
لان المصالح لم تغير وجهتك.. ولم تزعزع الاختبارات ايمانك..
و اريد ان اشكرك..
لأنك تقف بوجهك الحقيقي بشجاعة في أكبر حفلة تنكرية يشهدها العالم اليوم.