الحرب الأوكرانية , قراءة اولية في جيوبوليتيك الصراع و افاقه , المواقف و المتغيرات . - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الحرب الأوكرانية , قراءة اولية في جيوبوليتيك الصراع و افاقه , المواقف و المتغيرات .

الحرب الأوكرانية , قراءة اولية في جيوبوليتيك الصراع و افاقه , المواقف و المتغيرات .

  نشر في 22 ماي 2022  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

تمهيد عام :

(( ما بعد الحرب على أوكرانيا ليس كما قبلها )) , عبارة لطالما سمعناها من اكثر من مسؤول غربي منذ انطلاق الغزو الروسي المفاجئ للدولة الجارة أوكرانيا , ربما لا يحتاج احدنا الى كثير تامل لادراك ان الدهشة و الخوف من التالي يتملك قادة غالبية دول الغرب منذ اللحظات الأولى لهذا الغزو, و بتنا نسمع تصريحات متتالية لمسؤولين غربين في الاستخبارات و الامن و الخارجية يعلنون ان خبراؤهم قد فشلوا في تخمين وقوع هذه الحرب على المدى القريب , ذلك ان حربا في اوربا لا تحصل كل بضع سنوات ( بعكس منطقتنا العربية المنكوبة التي لا تفتئ تخرج من حرب حتى يتم إدخالها في اتون أخرى و هكذا في سلسلة لا متناهية من الصراعات و الاشتباكات البينية و الإقليمية ) حيث ان هذا الاستقرارا الطويل الأمد في تلك البقعة الحيوية من العالم هو نتاج تفاهمات و اتفاقيات ما بعد الحرب العالمية الثانية التي فرضها المعسكر المنتصر على المهزوم , تلك الحرب التي رسمت معالم و مستقبل القارة العجوز لثمانية عقود تالية ما انعكس على طبيعة توزع الخريطة الجيوسياسية العالمية و التوازنات و التحالفات بين الشرق و الغرب اي المعسكر الليبرالي الوليد و المعسكر الشرقي او الشيوعي و من يدور في فلكه , او بعبارة أخرى فقد كانت النتائج المباشرة لانتهاء الحرب العالمية الثانية هى تشكيل نظام دولى جديد يطمح إلى تطبيق قواعد القانون الدولى على كل دول العالم الذى انقسم بدوره إلى كتلتين رئيسيتين، الكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة و معها اوربا و استراليا وعبر عنها حلف الناتو العسكرى (١٩٤٩ – حتى الآن) والكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفييتى و التى بدورها قامت بتشكيل حلف وارسو ( 1955-1991 ) والذي انتهى بانهيار الاتحاد السوفييتي.

نظرات في طريق الغزو :

في بداية الحرب اعلن بوتين ان أهدافه من العملية العسكرية في أوكرانيا هي اسقاط الحكومة (( النازية )) في كييف و نزع سلاح أوكرانيا و منعها من حيازة سلاح نووي تهدد به روسيا و حفظ حقوق الأقلية الروسية في دونباس , واجه الروس مقاومة غير متوقعة و تعثرت أهدافهم في بداياتها لعدة أسباب منها صمود الرئيس زيلينسكي مع فريق قيادته و رفضه الخروج من البلاد تحت حماية المخابرات الامريكية و خطاباته الحماسية الموجهة للداخل و الخارج ما رفع الروح المعنوية للمقاتلين و السكان المحليين ما حدى بالجنود الى توديع أطفالهم و نسائهم و ارسالهم الى خارج الحدود حفاظا على حياتهم ثم العودة لمواصلة الكفاح , ثم ان الدعم الذي بدا مبكرا يتقاطر الى جبهات و مستودعات الجيش الاوكراني و خاصة مضادات الدروع و الطيران قد الحق خسائر فادحة بعتاد الغزاة و حرم الطائرات الروسية من زيارة الأجواء الأوكرانية تماما بعد شهر ونصف , كما اظهر الجيش الروسي و بحسب مراقبين وخبراء قدرا كبيرا من ضعف الروح المعنوية و انعدام الحرفية القتالية و سوء التخطيط و اضطراب خطط الامداد والتموين و فوضى كبيرة في التواصل بين القيادات العليا في غرف العمليات و بين الفرق و القطعات المنتشرة على طول الجغرافيا الاوكرانية , كلنا يذكر تلك القافلة العسكرية التي امتدت 40 كم قرب العاصمة كييف و التي ظلت أسابيع جامدة دون حراك و تبين انها كانت تعاني بحسب الاستخبارات الامريكية و البريطانية من تعثر التموين والامداد اللوجستي ما جعلها تعاود الانسحاب الى الشرق تاركة الخبراء العسكريين والمحللين في حيرة من امرهم حول تفسير هذا التراجع و الانسحاب , امام هذا الوهن و الخيبات الميدانية راح زعيم الكرملين يخفض من اهداف الحرب المعلنة متأثرا بأداء جنوده وضباطه الهزيل فاصبح الهدف هو الزام أوكرانيا بالتزام الحياد و منع الانخراط في أي محاور او احلاف معادية لروسيا و الاعتراف بسيادة الأخيرة على شبه جزيرة القرم و استقلال منطقتي لوغانسك ودنيتسك في إقليم دونباس شرق البلاد ذي الغالبية الروسية و الغني جدا بالموارد الطبيعية و مصادر الطاقة و الصناعات الثقيلة , ولكن بعد ثلاث اشهر من الغزو لا زال النصر بعيدا جدا ولا زالت قوات الروس تتكبد خسائر مهولة يوميا وخاصة مجازر الدبابات حيث أصبح امرا اعتياديا ان نراه على قنوات الاخبار و المواقع , كما ان أي من المدن الأوكرانية المهمة لم تسقط بعد بيد القوات الغازية , اكثر من ذلك يرى محللون ان المبادرة أصبحت الان بيد القوات المدافعة التي غدت تهاجم مختلف جبهات انتشار الجيش الروسي .

تغيرات و ابعاد الحرب :

تكتسب الحرب في أوكرانيا بعدا استراتيجيا و أهمية بالغة الدقة والتعقيد لاسباب كثيرة ليس اقلها ان مجمل احداثها ( العسكرية و تداعياتها الأمنية ) تقع في قلب القارة الاوربية التي كانت حتى وقت قريب واحة امان واستقرار لما يزيد عن سبعة عقود بينما تسود الفوضى و الفقر و التخلف محيطها من الجنوب و الشرق , و لا نبالغ ان قلنا ان نتائج الحرب الحالية ( التي لا تزال في بداياتها ) قد بدات ترسم ملامح و خرائط عالم يسوده اللا يقين و الهشاشة السياسية و الانكفاء الاقتصادي بسبب عدم إمكانية التنبؤ بحجم النتائج الكارثية المتعددة الاوجه التي ستسفر عنها هذه الحرب , و بسبب كون اوربا أصبحت الهدف بعد ان كانت هي الحكم في اللعبة لعقود طويلة , انها حرب ليس فيها منتصر و ان كان فيها طرف مهزوم في نهايتها .

ان العالم لا شك مقبل على تغيرات جوهرية ( سياسية و اقتصادية و تحديات امنية وجودية غير مسبوقة ) , لذلك اخذت الدول تعدل في سياساتها وتعيد تموضعها السياسي و تبني قراراتها على ضوء ما يحصل , فقد عملت المانيا بزعامة اولاف شولتس خليفة انجيلا ميركل ( مهندسة التقارب مع روسيا و الاعتماد على مصادر طاقتها ) على تغيير عقيدتها العسكرية التي ينص عليها دستور البلاد بعدم التدخل الخارجي او ارسال جنود او بيع أسلحة الى بلدان تشهد نزاعا عسكريا حيث بتنا نرى انخراطا المانيا فعليا ( عن بعد ) في النزاع الاوكراني عن طريق تقديم دعم سخي عسكري و مالي لحكومة كييف لجعلها تصمد اكثر امام الهجمات الروسية , يعلم قادة الغرب ان تكلفة إيقاف بوتين او هزيمته في اكرانيا اقل بكثير من تكاليف انتصاره و دفاعهم عن دولهم فيما لو فكر القيصر باستكمال الطريق نحو الغرب .

اولويات الدول المعنية :

وبالعودة الى قراءة المواقف الاوربية والإقليمية نرى ان الأولوية الأولى ل المانيا و من خلفها باقي دول اوربا هي منع بوتين من تحقيق نصر عسكري حقيقي و اسقاط حكومة كييف مهما كانت التكاليف , ربما نلحظ من تصريحات المسؤولين الاوربيين انهم لا يرغبون بالحاق هزيمة مهينة بروسيا ما يجعلها تنهار تماما ( وهو ما تطمح اليه أمريكا و من خلفها بريطانيا ) ذلك ان روسيا مفككة على حدود اوربا هو تحدي وجودي للقارة العجوز في ظل وجود الترسانة العسكرية و النووية الكبيرة التي تحوزها موسكو والحدود الطويلة جدا التي تربطها معها , بل ان الرئيس ماكرون اعلنها صريحة قبل فترة حين صرح ان اذلال روسيا في أوكرانيا ليس مصلحة اوربية , و هو يقصد بذلك إبقاء الباب مواربا امام بوتين للتخلي عن حلم كسب الحرب تماما و ضم أوكرانيا او اسقاط حكومتها و دعوته الى الانسحاب و الاكتفاء بما حققه جيشه من نتائج ( متواضعة ) في دونباس و ماريوبول و خيرسون .

الأولوية الثانية بالنسبة لامريكا و اوربا هي تامين مصدر بديل دائم وعاجل للطاقة لتحقيق امكان الاستغناء عن الطاقة الروسية لتضييق الخناق على مصادر تمويل الحرب لدى الكرملين لذلك تنشط الدبلوماسية الغربية هذه الايام مع دول الخليج ( قطر و السعودية و الامارات ) و الجزائر ونيجيريا و غيرها من الدول المنتجة للبترول و الغاز لمحاولة الحصول على عقود طاقة طويلة الاجل للتعويض عن انقطاع او نقص الطاقة الروسية خلال الفترة القادمة , و لعل هذا هو ابرز الاثار الاقتصادية للحرب اي عزم دول اوربا الجدي على التخلي مطلقا عن مصادر الطاقة من الجارة الشرقية ( نفط – غاز – فحم ) وهو ما حصل فعليا و نراه الان من اعلان استغناءها تماما عن استيراد الفحم الروسي , وكذلك تحللها شيئا فشيئا من الاعتماد على النفط و الغاز حيث اعلن وزير الطاقة الألماني انه بنهاية العام الجاري ستكون المانيا قد تحررت تماما من سطوة الطاقة الروسية التي كانت تشكل ما لا يقل عن 45 % من واردات البلاد ذات الاقتصاد القوي اوربيا وعالميا , هذه حرب تخاض بوجهها العسكري على الأرض و بوجوهها الأخرى بكل قوة حيث ان كل طرف وضع كل ثقله في سبيل هزيمة الطرف الاخر و منعه من تحقيق نصر استراتيجي .

تبدو الولايات المتحدة و بريطانيا من اكثر الدول استفادة من هذه الحرب لمبررات تاريخية و اقتصادية و سياسية كثيرة و كذلك اكثرها حماسة من اجل الحاق هزيمة ماحقة بالجيش الروسي و ان امكن ان لا تعود له قدرة على التفكير في شن حروب أخرى في المستقبل القريب و المتوسط , لم تكن روسيا تشكل تحد وجودي لامريكا و اوربا حتى وقت قريب بل كانت الصين ذات الاقتصاد المنافس و القدرات البشرية و التقنية الكبرى هي الهاجس الأكبر لمراكز القرار في الغرب و لعل رغبة أمريكا في إطالة امد الحرب و استنزاف روسيا بل جعل أوكرانيا مستنقع فييتنام روسي يعود الى تفكير الإدارة الامريكية في ما بعد الحرب و خاصة ان عينها على الصين التي تترقب عن كثب الحرب و ردود الأفعال و النتائج و ربما تتهيئا للانقضاض على تايوان لاعادتها الى السيطرة الصينية و هو ما قد يشعل حربا في بحر الصين لان هناك التزام امريكي قوي بامن و استقرار تايوان .

الأولوية الثالثة و الملحة بالنسبة لدول اوربا هي محاولة احتواء ازمة اللاجئين المستفحلة و التي لم تشهدها القارة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية و ما ينجم عنها من تحديات اقتصادية و صحية و بشرية , و لذلك استنفرت تلك الدول وراحت تعقد المؤتمرات و تصدر القوانين و التعليمات وتعقد الاتفاقات البينية لتنظيم شؤون و تلبية احتياجات المدنيين الاوكرانيين القادمين و الذين تجاوز عددهم ست ملايين و هو رقم مهول خلال اقل من ثلاث اشهر من الحرب ما يعني ان استمرارها قد يفضي الى ما لا يقل عن 15 مليون لاجئ بحسب مسؤولين في المنظمات الدولية المعنية و هو ما يلقي على عاتق الدول المستضيفة مهام ضخمة و ما تحتاجه من ميزانيات كبيرة لتامين احتياجات هذه الاعداد المهولة من اللاجئين الهائمين على انفسهم في اصقاع اوربا خوفا من الموت تحت صواريخ القيصر و جنده .

الاثار الاقتصادية و ما بعدها : 

و من الاثار الاقتصادية الكبيرة لتلك الحرب هي سلسلة حزم العقوبات الضخمة التي فرضتها أمريكا و اوربا على روسيا لدرجة ان الرئيس بايدن اعلن ان هذه العقوبات غير مسبوقة في التاريخ و ان اثارها على روسيا ربما لن تظهر سريعا لكنها ستكون مدمرة على المدى المتوسط و قد انصبت هذه العقوبات على قطاع الطاقة بشكل خاص و قطاعات التعدين و التكنولوجيا و الاستثمارات و رؤوس الأموال و ما تبعها من تجميد أصول روسية في بنوك الغرب بلغت المليارات و مصادرة أصول أخرى بل و استخدام هذه الأموال في دعم مجهود أوكرانيا بالصمود و المقاومة .

اثر غير متوقع و سريع ( و ربما له تداعيات كبيرة على الامن في الفضاء الاوربي ) شهدناه في الأيام الماضية هو اعلان كل من فنلندا و السويد رغبتهما في الانضمام الى حلف شمال الأطلسي ( ناتو ) و التقدم فعليا بطلب ذلك و هي دول كانت الى وقت قريب تلتزم الحياد و ترفض الانضمام الى أي تحالفات عسكرية , لكن الغزو الروسي قد غير او حقيقة قد قلب العقيدة السياسية للبلاد المستقرة منذ عقود طويلة .

الشرق الاوسط في عين العاصفة :

و لا تتوقف اثار الحرب تباعا فعلى صعيد منطقة الشرق الأوسط و بعد ان دخلت روسيا بقوة في الحرب على الشعب السوري و مساندة نظام الأسد منذ عام 2015 نراها الان تنسحب تدريجيا من مناطق تواجدها من اجل تدعيم جبهاتها المشتعلة ( و المستنزفة على ما يبدو) بالرجال و العتاد و هو ما أتاح المجال لإيران لتوسيع مجالها الحيوي العسكري عبر إعادة الانتشار و إحلال ميليشياتها في كل مكان تنسحب منه قوات بوتين تقريبا ما سيكون له تبعات عسكرية صارخة على طبيعة الخارطة العسكرية للجغرافيا السورية الممزقة و المشتتة أصلا بين جيوش عدة دول , ما حدى بالعاهل الأردني الى اطلاق نداء تحذير من ان حدود الأردن مع سوريا ستكون مهددة بسبب الانسحاب الروسي و ما يبدو انه انتشار للجماعات الإيرانية المتطرفة بشكل مكثف على طول مناطق الحدود و ما له من تداعيات على امن واستقرار الأردن و ربما المحيط , ما يجعل الأردن امام خيار وحيد معقول وهو إعادة احياء غرفة الموك و التسريع بإعادة تشكيل و تسليح كتائب الجبهة الجنوبية للجيش السوري الحر صاحب البيئة الخصبة و الحاضنة القوية في حوران بكاملها و ذلك استعدادا لسيناريوهات مستقبلية غير مطمئنة .

ذات التغيرات تنطبق على علاقات السعودية المتوترة طويلا مع ايران منذ اندلاع ثورة الخميني و إعلانها التمدد خارج الحدود كهدف من أهدافها المقدسة , حيث تعقد جلسات الحوار المكوكية بين الطرفين في العراق منذ عدة اشهر في استدارة سعودية غير متوقعة عن مواقفها المعلنة سابقا تجاه الجار المتوثب و الطامع , برغم ان حليف ايران القوي في اليمن ونقصد هنا ميليشيا الحوثي الذي يقصف الرياض و جدة و ابار النفط الشرقية ومطارات المملكة وقواعدها لا يتصرف الا بتوجيه و تعليمات من الحرس الثوري الإيراني لكن يبدو ان حرب أوكرانيا و كذلك تكاليف الحرب على اليمن و الاثار المدمرة لوباء كورونا و التباطؤ الاقتصادي القوي ونهج إدارة بايدن المخيب لامال ولي العهد قد لعب دورا في القرار السعودي بالانسحاب تدريجيا من الحرب العبثية باهظة الثمن في اليمن و الالتفات للغة الحوار مع الجارة العدوة على الضفة الشرقية من الخليج , بيد اننا نرى ان ايران و ميليشيا الحوثي ليست في عجلة من امرها في انهاء هذه الحرب لغايات لا تخفى لعل ابرزها المشاغلة عن ملفات أخرى و الاستنزاف الاقتصادي و العسكري الطويل للمملكة المنهكة .

تركيا الغائب الحاضر في الحرب الأوكرانية و التي منذ عقدين و هي تمسك العصا من المنتصف او لنقل انها تمشي على حبل دقيق من التوازنات الهشة بين علاقاتها مع دول الغرب و الناتو من جهة و روسيا بوتين من جهة ثانية , فقد كانت الحرب حافز قوي لاعادة ضبط أولوياتها و خططها , فمثلا وبشكل غير متوقع اخذت غالبية دول الإقليم و منها تركيا تعيد حساباتها , واصبحنا نشهد العلاقات تتحسن بينها و بين عدد من دول الخليج و خاصة الامارات و السعودية بعد سنوات من الصدام في ليبيا و مصر و سوريا و راينا زيارات على اعلى المستويات تمهيدا لتطبيع العلاقات , ذلك ان تركيا و بحكم موقعها الاستراتيجي بين الشرق و الغرب و بواقع تحكمها بمضائق البوسفور و الدردنيل و ما يعنيه من فتح او اغلاق البحر الأسود و البحر المتوسط امام روسيا فهي تبدو معنية اكثر من غيرها في استثمار اللحظة التاريخية الفارقة و محاولة وضع الاقدام في المكان الصحيح من الصراع المحتدم , فهي استنكرت الغزو الروسي بيد انها عادت و وضعت نفسها موقع المصلح بين الطرفين واستضافت فعلا جلسات مفاوضات مكررة بين وفود اوكرانية و روسية دون ان ينتج عنها سوى تعهدات بفتح ممرات إنسانية لخروج المدنيين ( تهجير قسري للشعب الاوكراني ) , تريد تركيا ان لا تكون فعليا في صف طرف ضد اخر حتى لا تدفع الثمن حين انكشاف الأمور بعد الحرب لذلك نراها تتصرف بحذر فيما يتعلق بالتصريحات و المواقف و القرارات ذات الصلة, ترى حكومة اردوغان ان لديها فرصة سانحة ربما لا تتكرر في اعقاب تقديم فنلندا و السويد طلب الانضمام الى حلف ناتو و هما الدولتان اللتان تدعمان و تستضيف كل منهما مكاتب للأحزاب و المليشيات الكردية التي تنشط عسكريا في شمال شرق سوريا و شمال العرق و هي التي تؤرق تركيا و تسبب لها صداعا منذ عقود حيث تخوض معها حرب عصابات دون انتصار طرف على اخر, وقد اعلن الرئيس التركي دون تأخير موقف تركيا المعارض لانضمام الدولتين الى الحلف وهي معارضة يفهم منها عدم ممانعة مطلقة لكن عليهم أولا دفع ثمن تذكرة الدخول و التي لا تبدو انقرة متهاونة فيها وهي مطالبة أعضاء الحلف بمساعدتها في إقامة منطقة امنة على طول الحدود السورية التركية بعمق 40 كم بما يؤمن مجالا حيويا للتحرك و يبعد خطر الجماعات المسلحة الكردية عن حدودها , و يتيح لها امكان إسكان حوالي مليون ونصف الى مليوني لاجئ سوري ممن يتواجدون في تركيا و تنوي اعادتهم الى بلادهم (( طوعيا )) من اجل تخفيف الاحتقان الداخلي الذي تضخم في الفترة الأخيرة تجاه اللاجئين السوريين , و هي تعلم انها ورقة دابت المعارضة التركية بكل اطيافها على استعمالها بكل مناسبة من اجل كسب تاييد الناخبين الاتراك قبل الانتخابات التي توصف انها مفصلية بعد عام من الان , تعلم تركيا ان مفتاح المنطقة الامنة هو في البيت الأبيض وليس في هلسنكي و لذلك تنتظر مبادرة من ادارة بايدن لفتح حوار معها بخصوص مطالبها قبل اعطاء الضوء الأخضر لانضمام فنلندا و السويد الى الحلف و هو مالم تبادر اليه واشنطن حتى الان واكتفت بتصريحات صادرة عن الخارجية باعلان تطمينات عامة لانقرة لا تحقق الحد الأدنى مما تطمح اليه , و هنا مرة أخرى واشنطن في موقف يتطلب منها المفاضلة او الموازنة بين تركيا و حساسيتها الأمنية و كونها حليف و صاحبة جيش قوي في الناتو ( ترتيبه الثاني في الحلف ) وبين المجموعات الكردية المسلحة المتحكمة في شمال شرق سوريا بما فيها حقول النفط و يبدو ان القرار ليس سهلا اطلاقا او لم يتبلور بعد في المطبخ الأمريكي .

امريكا المتخبطة :

و في ذات السياق تروج وسائل اعلام و تسريبات من واشنطن عن عزم الرئيس القيام بزيارة الى السعودية و الاجتماع بولي العهد محمد بن سلمان برغم الجفاء و البرود الذي صبغ علاقاتهما منذ وصول بايدن الى سدة الحكم فقد كتبت واشنطن بوست في عددها الصادر قبل أيام : ان زيادة أسعار النفط و الانتخابات القادمة و كلفة حرب أوكرانيا تدفع بايدن لتغيير نهجه تجاه السعودية, فقد اعلن الاخير مرارا انه سيجعل من السعودية دولة منبوذة و انه عازم على معاقبة ولي العهد بسبب سجله في حقوق الانسان و خاصة في اعقاب جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في سفارة بلاده في انقرة , لكن الرياح لا تجري دوما كما يشتهي ربان السفينة , فالحرب الحالية قد غيرت كثيرا من الأولويات و المفاهيم و الخطط خصوصا مع الازمة الحادة في الطاقة والقفزة في أسعارها و ما تبعه من جنون أسعار الغذاء و تكاليف انتاجه او زراعته و نقله و ازمة سلاسل التوريد ما أدى الى موجات تضخم كبرى ضربت ولا زالت اغلب دول العالم بشكل لم نشهده منذ عقود , ترافق ذلك مع حصار بحري روسي لموانئ أوكرانيا في بحر ازوف و البحر الاسود توقفت على اثره كييف عن تصدير القمح و زيت الصويا و اسمدة اليوريا و هي التي تساهم بجزء وافر من الإنتاج العالمي لتلك المواد الحيوية , و هنا تبدو السعودية في موقف قوي ربما يمكنها من فرض بعض الشروط او المطالب على الإدارة الامريكية المتخبطة , وان كنا نلحظ تحول وجهة قيادة المملكة قليلا تجاه الصين وعقد صفقات طاقة وتسليح معها وهو خيار نراه عاطفي او ارتجالي اكثر مما هو واقعي , ذلك ان الصين ليست امريكا و ربما امام ابن سلمان فرصة كبيرة لاعادة تفعيل معاهدة الحماية و الصداقة ( المعتبرة بحكم الميتة دماغيا منذ عهد أوباما باستثناء ولاية ترمب ) التي وقعها جده عبد العزيز ابن سعود مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت قبل سبعة عقود , و لعل الرياض اليوم اكثر من أي وقت مضى بحاجة الى انعاش تلك المعاهدة التي حفظت عرش العائلة الحاكمة مستقرا مزدهرا تحت المظلة الامريكية , خاصة في ظل تغيرات مقبلة على المنطقة سوى حرب اوكرانيا مثل الاتفاق النووي المحتمل مع ايران واطلاق يدها تماما بعد حصولها على المليارات المجمدة و الاستثمارات المزمعة عقب رفع العقوبات المتوقع عنها .

هوامش و خلاصة :

هناك لاعبين اخرين يبدو انهم الغائب الحاضر وسط هذه المعمعة لكنهم يبذلون جهودا لتحصيل مكسب ما من اثار هذه الحرب و هنا نذكر إسرائيل وهاجسها الأمني و طموحها في تحقيق اتفاقيات سلام مع محيطها العربي كتلك التي تمت العام الفائت ,  النظام السوري المتهالك و استماتته في البقاء على جماجم ملايين من مواطنيه , و الرئيس السيسي و نظامه و الازمة المعيشية الخانقة التي تعصف بالشعب المصري , و بعض الأنظمة و الحكومات التي تحرك احجارها و ترسم خططها على صوت ازيز المدافع في كييف و ما حولها .

يبدو اننا مقبلون على مفاضلات و اصطفافات استراتيجية هامة و مفصلية على الساحة العالمية تقوم خلالها كل دولة بمحاولة إيجاد مقاربات منطقية او مصلحية تخدمها و تعزز مكانتها او تحميها , فالوقت ينفد و الحرب في اوربا لا زالت مستعرة و التهديدات قائمة حقا و الاقدم غامض و مربك و مخيف .  


  • 1

   نشر في 22 ماي 2022  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا