فِيْ قَرارةِ نَفسِي -العَتِمةِ -يعلو صوتٌ محفزٌ كئيبٌ لا يليقُ بكاتبِة فِيْ أوائلِ العشريناتِ منْ العمرِ. و قلمُي حائرٌ. يترددُ لاهثًا مُستغيثًا..يتحركُ معنِفًا في دوائرِ بحبرِ أسودٍ سميكٍ. فالقلمُ كماْ ذكرتُ يلهثُ و أقربُ أنْ يكونَ مترجيًا..هممتُ بكلمة فأخرى مطمئنًا إياه. إلى أنْ باغتني صوتي من مكمنَه: "جد شيئًا نافعًا .. هز طولَك و ابحثْ عنْ مَاْ يستحقُ الكتابةَ عنْه. كفاك حديثًا عنْ الحبِ و الفتياتِ الجميلاتِ. اللاتي لم تراهن يومًا."
نعم .. لعلك لاحظت أنني مثيرةٌ للشفقةِ .. و استيائي لضحالةِ مَاْ أنشرُه بادي الرأيِ. لا أهربُ من الحديثِ الجديِ بهذا الهزلِ كما تسميه -لا أوافقك على ذلك بالمناسبةِ. فالخيالُ و الرومانسيةُ الحالمةُ لا تنقصُ منْ قيمةِ الكاتبِ. و نجدُ علىْ مدارِ التاريخِ الأدبيِ كتاباً برعوا في الغزلِ و وصفوا المشاعرَ الإنسانيةَ بأرقِ الكلماتِ و أعذبِها . نزار قباني مثلًا للشعراءِ الكبارِ و إحسان عبد القدوس في فنِ القصصِ والروايةِ!
و هناك تفسيرٌ آخر لعزوفي عنْ أحاديثِ الأمةِ وَ العصرِ ؛أنّ الساحةَ متاحةٌ للجميعِ، و مليئةٌ بِمَاْ يكفي مِنْ المحللين و الناقدين؛ ولن أزيد النهر رشفةً.
قدْ تهزأ مِني. أقسم لَك لا أهربُ. اندفعُ كثيرًا و تأخذُني الهواجسُ إلىْ حيثُ لْا أريدُ أنّ أكتبَ. الكتابةُ فعلٌ أنانيٌ كماْ تعلمُ، و المركبُ لا تسيرُ إلا بشراعِ أوحدٍ. لكنّني أدبًا وليسَ تفضلًا أود إشراكك في الأمرِ. علّك تعي ما أمرُ بِه. حينَها تجدْ مبررًا يؤيني من انتقاداتِك اللاذعةِ حولَ محورِ اهتماماتي -التافهة -و توجهِ كتاباتي. وقتئذٍ تدركْ أنني ما أكتمُ خلجاتِ عقلِي ،و ابعدْ قارئي عن صراعات و جولات بين المنطقِ و الخيالِ، و الحقِ في الحياةِ و الحكمِ، و الكرامةِ و العدلِ و الصفاءِ الإنسانيِّ، و توابعِ ذلك من أمورٍ ننادي بها. أقصد أنتم -يا معشر الكُتاب- تهتفون بها.
..
لو تسمحُ لِي أنْ أُجسِدَ لَك رأيًا صائبًا مِنْ أبناءِ شارعِكم : "تبًا لكم، و سخطًا علىْ أقلامِكم التي تأكلون بِهاْ الحلاوةَ في النعيمِ. تجلسون علىْ الأرائكِ و تشاهدون صورَنا بِلاْ مأوى و لاْ رغيفِ يصلبُ طولَناْ علىْ شاشاتِكم. تتأثرون بِنا لاْ مِنْ أجلِ إنسانيتِكم و رهافةِ مشاعرِكم بلْ دعمًا لصدقِ مقالاتِكم و قصصِكم عَنْ الفقرِ و انتشارِ البطالةِ وَ الحربِ و المجاعاتِ. وَ دعواتُكم الصادقة للسلامِ و الأمانِ. و يذرفُ قراؤكم الدموعَ الحارةَ علىْ ألحانِ الكمانِ فيْ جلساتِ العشاءِ الفاخرةِ .
تبًا لكم و سخطًا عَلىْ الأقلامِ التي ترزقُكم و تزيدُنا فقرًا بفقرٍ".
..
لَمْ يُعجبْك رأيَ المواطنِ البسيطِ، أليسَ كذلك؟
مبالغٌ فيه إلىْ حدِ الارتيابِ مِنْ صحتِه. غير أنّه الصحيحُ و أصدقُ ما قيلَ و يُقالَ! و بنظرةٍ عَلىْ هيئةِ المُتكلمِ يُمكنُك اتهامَ المسكينِ بالجنونِ، ولنْ تكونَ أولَ مَنْ يَفعلُ؛ ليسَ بسببِ مظهره الغير لائق برجلٍ فيْ أواخرِ الثلاثين، وَ العرقُ يغطي جبينَه في عزِ البردِ، و وجهُه الشاحبُ كالمغشى عليه من الموتِ، و هزيانُه المُستمرُ بشأنِ العاصفةِ القادمةِ التي تجتاحُ العامةَ و الخاصةَ، و القصورَ و القبورَ.
مع تأكيدٍه وَ جزمٍه بأنْ لاْ نجاةَ إلا لمَنَ لمْ يتدنسْ بالفسادِ و الرشوةِ، و الغنى من غير نصيب و قسمة.
....
لا بأس ما اردته فقط ان تشاركني دواخلي و أفكاري حتى يصلك الغرض من لا جدوى الحديث عن الألم و الأمل ؛لإنها المعادلة المبتذلة..
...
كما كنت أقول فلنحاول سويًا نسجَ سيناريو واقعيٍا، بعيدًا عن الرومانسيةِ و الخيالِ و الجمالِ. و لنبدأ بكلماتٍ عابرةٍ تحيطُ القارئَ بنعومةٍ و خفةٍ، تستدرجُه لأبوابِ حكايتِنا.
نحدثه عن ظاهرها ، المكان ، الزمن ، القليل من الوصف الانسيابي و دغدغة العواطف؛لإنشاء الرابطة السحرية بين القارئ و شخصيات الحكاية. و من ثم نشركه العقدة في حبكة بارعة تخطف أنفاسه و يسارع بالعثور على الحل المنجي لبطلنا. نعم ، الأمر ينطلي على القارئ المندفع. يبذل أقصى ما عنده من الحلول. يفرك كفيه في أسى، يحك رأسه و يمسح جبينه الخشن. يقول بصوت مرتفع و نفاذ صبر:"لا أجد حلًا، لا اجد حلًا". يقلب الصفحات بحركات عنيفة و مضطربة فيجد البياض و الفراغ. يتابع -بعشوائية -قلب الصفحات الفارغة في جزع.
يتداخل صوتي و صوته: يالحماقتي!
هو احمق لأنه اشترى بماله الثمين قصة حياته اليومية تروى بقلم أسود سميك. و لو كتبها هو او غيره من ملايين المواطنين البسطاء او الفقراء لكانت اكثر صدقا والماما و أقل لذاعة و أوفر ثمنا. و لن يجد احدهم حلا.
أما أنا فأكبر أحمق. كتب رواية بائسة مبكية تعكس واقعا يعرفه الظالم قبل المظلوم. يعيشه القارئ من قبلي! و كلانا لا يجد حلولا مقبولة معقولة نملكها او حتى نعرفها!
فماذا أضفت؟ تعاسة فوق تعاسة.. وجعا مشعا في ظلام الأوجاع المعتادة. احدثك عن الأسرى الفلسطينين و الشهداء السوريين؟ أم سوء الأحوال الاقتصادية المصرية و الصراعات السياسية في إطار حكاية باهظة- لن تقوى على شرائها -بطلتها حسناء التي صادفت حبيبها المكافح في ندوة في ساقية الصاوي فيشتركان معا في مواجهة صعاب الحياة و تحل العقدة الروائية بقليل من الصبر و الأمل و اليقين و الإخلاص و وضع القرش على القرش، و فتح دفتر توفير في البنك الاهلي لملاليمهم السنوية.
لم يعجبك ايضا يا سيدي! لا بأس ما اردته فقط ان تشاركني دواخلي و أفكاري حتى يصلك الغرض من لا جدوى الحديث عن الألم و الأمل ؛لإنها المعادلة المبتذلة.
قلمي حائر لا يزال يلهث ،يتحرك معنفا في دوائر بحبر اسود سميك. قلمي اقرب ان يكون مترجيا..هممت بكلمة فأخرى مطمنة إياه.. فهدأ . و هدأت. و لم يباغتني صوتي و لا صوتك