نظرات في تشريعات القرآن ومعالجته لقضايا الإنسان - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

نظرات في تشريعات القرآن ومعالجته لقضايا الإنسان

نحو خلق منهج تشريعي واقعي

  نشر في 13 شتنبر 2015 .

تعددت القراءات في موضوع التشريعات القرآنية ومعالجتها لقضايا الإنسان، وتباينت الأفكار والأفهام حولها، ما أدى إلى التأثير في جوهر المأثور أو النقل في ذاته، وذلك لمركزية الصلة بين النموذج وأصحابه. فالصلة بين النموذج وأصحابه، صلة وحيدة وحتمية وهي صلة النقل. فأصحاب النموذج الماضوي هم في آن واحد أصحاب النقل، وهذا صحيح مهما كان الميدان المعرفي الذي نظرت إليه، ففي ميدان التشريع الذي نريد مقاربة موضوعه نجد أن الماضي هو الوجهة والمتجه، ومهمة طالبه العلم به أي الفقه فيه، فكما يقول الشافعي: "وجهة العلم الخبر " أي النقل ويزيد الشافعي فيقول " ولو قال بلا خبر لازم ولا قياس كان أقرب من الإثم، فلم يجعل الله لأحد بعد الرسول أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله" فوجهة العلم بعد الكتاب حسب المدرسة الفقهية السنة والإجماع والأثر . والإشكال هنا إشكال منهج، يتجلى في انحصار وظيفة المجتهد وجهده وفق هذه المدرسة، أي المدرسة الفقهية، في حفظ ما جاء به السابقون والحرص على احترام ما أقره السلف من قبله، ويبقى حتى تعاملهم مع آيات الأحكام تعامل سطحي يقتصر على إقرار تلك الأحكام والسعي في تطبيقها، كونها شرع الله ومن الدين في ذاته دون أن يعير الإهتمام لمعطى أساسي ومنهجي في مقاربة أمور التشريع، وهي قضية الاجتماع البشري أي الواقع بالتعبير العامي.

وأمام هذا الأزمة المنهجية تطرح العديد من الأسئلة الواجب الإجابة عليها لحلها وتلافي مكامن الضعف فيها. فهل المشرع هو الله وحده؟ أم التشريع يمكن أن يكون جائزا لغيره؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل تشريع غيره للأحكام مطلق أم أنه محكوم بضوابط على نحو يصبح معه الاجتهاد في التشريع مقيدا بقاعدة معروفة لدى الفقهاء مفادها أنه " لا اجتهاد مع النص "، وفضلا عن ذلك هل يعتبر حق التشريع في الأحكام وجها من وجوه الاجتهاد؟ بل هل تلك الأحكام مقتصرة على أحكام المعاملات أم تشمل العبادات من جهة ما يتعلق بها من تفصيل في الأداء والتحقق في الممارسة والتطبيق؟ و هو أمر معروف في ضوء ما يستدعيه اندراج الدين في التاريخ من مأسسته ومن إفرازه لأشكال شتى من التدين. واعتبارا مما سبق ذكره من أسئلة يلوح مطلب التجديد في مسألة التشريع الديني الآن وهنا مطلبا عاجلا في السياق المعاصر. خصوصا على إثر ما يطرح أمام المنظومة التقليدية من قضايا جديدة، جاءت مصاحبة لمد العولمة والحداثة، وما أنتجاه من قيم جديدة اقتضى الحال مواجهتها أو على الأقل استيعابها وأسلمتها.

وعلى ما سبق أطرح السؤال المركزي الذي أبتغي معالجته على وجه الخصوص من خلال هذه المقالة: هل مازالت الثقة في المنظومة التشريعية التقليدية الدينية ممكنة اليوم في سياق العولمة القائم على الاعتماد المتبادل المفروض في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية وخصوصا القيمية؟

يقول المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد: "من السهل أن نطرح موضوع عالمية الإسلام بناء على تصورات أيديولوجية أو رغبات حالمة، ولكن حالما نضع في الاعتبار العديد من الموضوعات كمسألة الحريات والتنوع الثقافي واحترام الآخر ونفي الإكراه والاشتراطات العلمية والمعرفية لأي طرح كان، فإن مقولة عالمية الإسلام أو صلاحيته لكل زمان ومكان تواجه الكثير من التحديات، وترتكز الكثير من هذه الأطروحات على دوافع إيمانية تمثل سعيا إلى تحقيق الرغبة الإلهية في تصورنا، التي تكتسي ثوب الشفقة والرحمة على البشرية من أجل إنقاذها وخلاصها" .

ومن خلال المقولة الأخيرة لأبي القاسم حاج حمد يظهر لنا أنه يحاول أن يوجه عقولنا لقضية أساسية، وهي جعل المقروء يتفاعل مع بيئته، فهو يعتبر أن شرط بناء عالمية الإسلام من جديد هو جعل البنية المعرفية للقرآن الكريم متفاعلة مع الواقع الجديد بتعدد ثقافاته ومشاربه الفكرية، واستيعابها للقضايا المعاصرة. ومن بين القضايا المعاصرة التي تطرح أمام الإسلام وأمام منظومته المعرفية المتمثلة في نصوصه قضية التشريع والحريات، التي أصبحت تشكل نقطة ارتكاز العالم ! فالعالم بأسره ومنذ عقود يتحدث عن مسألة الحريات وحقوق الإنسان والحقوق الفردية... ومن هنا كان لزاما على الإسلام أن يمضي قدما في استيعاب الوضع والواقع الجديد. لكن وبسبب المنهج التراثي الذي يُفرض على البيئة الإسلامية بفعل سلطة التاريخ وسلطة النص، والذي ليس بالضرورة نصا صحيحا أو خالصا بحيث خضع هو الأخير لتأثيرات التاريخ، لتزال الأمة ترابح مكانها وتتلقى الضربات تلو الأخرى.

وفي نظري أن أمر حل هذا الإشكال المنهجي يقتضي علينا ضرورة العودة للنظر في قضيتا الدين والتدين، وذلك من خلال التمييز بين الأخيرين وإيضاح عناصر كل منهما، معتمدين في ذلك نظرة معرفية مستبصرة للقضية. والعودة للنظر فيهما بتمعن تجعلاننا نخرج بملاحظتين أساسيتين مرتبطتين:

1- من الصعب إيجاد تعريف معرفي للدين، وأي محاولة في هذا الإتجاه ستجعلاننا نخرج بعدد من التعرفات بعدد المذاهب والفرق، وذلك للطبيعة الذاتية للمعرفة، كما أننا سنخرج بتعريف للدين مصدره التدين وليس الدين في ذاته، أي سوف تسفر عن رؤية لاهوتية موجهة سلفا.

2- أيضا سيكون هذا التعريف سطحيا فقط، وذلك بسبب موضوع الغيب العصي على التوصيف، لأنه مفارق لأدوات التجريد الفلسفية، وهي الأخرى ستعطي تفسيرا للتدين وليس للدين، كونها ستسقط في مناقش مظاهر وسائل الدين في الواقع.

ومن خلال هذه الملاحظات الأولية حول قضيتي الدين والتدين يمكن الخروج بمصادرات منهجية هامة يلخصها عبد الجواد ياسين فيما يلي:

1- "إن الدين من حيث يقوم على مبدأ الوحي الإلهي، يرجع إلى مصدر مفارق للإنسان، أي أن له وجودا ذاتيا سابقا على حضوره في الاجتماع، ومن تم فهو فكرة مطلقة ومتعالية. غير قابلة للتغيير بفعل الاجتماع".

2-" إن الإنسان مع ذلك هو موضوع الدين ومجاله، ولذلك فإن الدين لا يظهر إلا من خلال التجلي في الواقع الاجتماعي، وهو ما يعني أن حضور الاجتماع في البنية الدينية ضروري ليس فقط بحكم طبيعة الاجتماع، بل كذلك بحكم موضوع الدين".

وبالتالي فإن إثبات المصدر الإلهي للدين في ذاته، لا يعني إنكار حضور الاجتماع في البينة الدينية الكلية، فلأن الإنسان هو موضوع الدين ومجاله، سيعبر المطلق الديني عن ذاته من خلال التمثل في الواقع الاجتماعي. وعليه تبني النص لهذه الخيارات الاجتماعية لا يعني في حال من الأحوال أنها تتحول إلى فكرة مطلقة لها ثبات القيم الكلية، بل يشير فحسب إلى اعتمادها في سياق زمكاني بعينه. وإن مؤدى هذه المصادرة هو أن النص الديني الصحيح يتضمن ما هو مطلق ثابت يمكن وصفه من الدين في ذاته، وما هو اجتماعي قابل للتغير لا يجوز إلحاقه بالدين في ذاته. و من هنا كان التشريع كونه يخاطب الاجتماع البشري أي يخاطب السياق الزمكاني المتغير، قابلا للتطور والتغيير بما أنه سيتم تنزيله تطبيقيا على الواقع متبنيا خيارات اجتماعية.

ولتوضيح هذا اللبس كان لزاما على الباحث أن يعود إلى التشريعات المذكورة في منطوق البنية النصية ليستقرئها في الإطار الزماني والإطار الموضوعي، أي دراسة لأسباب نزول النصوص و استكمالها لبنيتها بأثر رجعي، ودراسة منطق الاجتماع السياسي و تأثيره على مواضيع التشريع.

3- "إن الإنسان في نفس الوقت هو الذات التي تتلقى الدين وتمارسه، أي الذات التي تتدين، ومن هنا لا سبيل إلى إدراك الدين و التعبير عنه إلا عبر وسائل الإحتماع البشرية وفي مقدمتها اللغة. ويترتب على ذلك حضور الخصائص و المثيرات المتباينة للذوات الفردية والهياكل الاجتماعية إلى منطوق البنية الدينية".

ومن خلال هذه المصادرات المنهجية يمكن القول بأن إشكال الواقع يتجسد بالأساس في عدم فهم رؤية القرآن المعرفية، وفي عدم معرفتنا وتمييزنا بين الغايات والوسائل التي شملها، ما أدى بنا في نهاية الأمر إلى الجمود عند تصور معين لمناهج معالجة قضايا الإنسان. جعلنا نضرب الإسلام من حيث نظن أننا ننصره ونقوي وجوده، وأيضا جعل المجتمع يعيش في حالة فصام نكد بين ما يؤمن به وما يريده أو يعيشه. فعلى سبيل الذكر قضايا الشباب العاطفية وموقع الفقه منها، فالأخير يحرم مجرد الميل الذي يكون بين شاب وشابة، والأخيرين يؤمنان بأن علاقتهما غير شرعية، لكنهما في المقابل لا يستطيعان كبح جماح تلك المشاعر ويتحديان ذلك التشريع ما يؤدي في نهاية المطاف إلى نخر قواعد المجتمع. في حين كان بإمكان الفقه أن يجد حلول واقعية لهذه القضية بدل أن يهرب إلى الأمام احتجاجا بتشريع تاريخي يقضي بحرمة العلاقات العاطفية، دون أن يتكبد عناء النظر في السياق التاريخي الذي أنتج الحكم، ودون أن يعير الاهتمام لقضية لفلسفة التشريع في القرآن، القائمة على إيجاد الحلول للمشاكل بدل الوقوف سدا مانعا أمام ارادات الأفراد الطبيعية والفطرية، وأيضا دون أن تنظر في جوهر العلاقة في حد ذاتها فتمييز بين الحب والشهوة.

والناظر إلى التجارب قريبة العهد إلى عهد النبوة أو التجارب في عهد النبوة سيجد أن هذا البعد المنهجي كان مستحضرا بشكل كبير عند الفقيه انذاك، فتجد عمر بن الخطاب وقد ألغى نصيب المؤلفة قلوبهم في تقسيم الغنائم وغيره من الاجتهادات التي قام بها في خلافته، كما أننا سنجد في العهد النبوي أن النبي ص أجاز في إحدى غزواته زواج المتعة وذلك مخافة أن يفتن الجند، كما أنه في العديد من القضايا التي كان يطلب منه حلها، كان يتوسل بمنهج قرآني رصين يقتضي إيجاد البديل قبل انزال الحد. وهذا أمر ليس غريب على رسول الله ص الذي لقنه الله عز وجل منهجه العظيم من خلال العديد من القضايا التي عرضت في القرآن العظيم، والتي من أكثر تداولا قضية تحريم الخمر. وفي قضية الجزاء "الحدود" أيضا نجد أن النبي ينتهج فيها منهجا منيرا، يقضي بدفع الحدود عن أهلها ما استطعنا.

أخيرا إن التشريع يخضع لبنية الواقع الاجتماعي، فيتفاعل مع قضاياه وإشكالات وفق ما يتيحه. ولذلك كان لزاما على الفقهاء أن يستحضروا في معالجتهم للقضايا الاجتماعية هذا البعد المنهجي المساعد على تلافي أزمات الاجتهادات الخارجة عن سياق ما يطلبه الواقع. 


  • 3

   نشر في 13 شتنبر 2015 .

التعليقات

M.Logos منذ 7 سنة
السلام عليكم , موضوع جميل وعميق ويتطلب فهمه النظر الى الأبعاد المختلفة للموضوع هذا.
كنت أظن أن مالك بن نبي هو أصعب كاتب قرأت له, لكن بعد مقالك هذا أعطيك الرقم واحد هههههه.
وجدت صعوبة في فهم كل شيء لكن فهمت البعض منه. شكراً لك
1
حمزة الوهابي
شكرا لتتبعكم واهتمامكم بمقالي .. اتمنى ان تكون رسالة المقال قد توصلتم بها :) سعيد جدا لهذا الاهتمام ..
اما بخصوص الصعوبة في خطاب ولغة المقال فهي تحتاج فقط الى القليل من التركيز ..

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا