عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال قال رسول الله(ﷺ):
(مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خبْءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ)
وجاء في روايات أخرى قوله خبيئة
صححه الألباني رقم: 6018 في صحيح الجامع
جاء في المعجم الوسيط:
(الخبء) المدخر والمخبوء وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيز {الَّذِي يخرج الخبء فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} وَفسّر الخبء الَّذِي فِي الأَرْض بالنبات وَالَّذِي فِي السَّمَاء بالمطر يُقَال أخرج خبءالسَّمَاء وخبءالأَرْض.
وفي القاموس المحيط: الخَبْءُ: ما خُبِئَ وغابَ، كالخَبِيءِ والخَبِيئَةِ، و من الأرْضِ: النَّباتُ،
و منَ السَّماءِ: القَطْرُ.
ويقال: له خبيئة خبأها ليوم حاجته، وله خبايا على وزن خطايا.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله مبينا معنى الخبء أو الخبيئة: (فليجتهد العبد، ويحرص على خصلة من صالح عمله، يخلص فيها بينه وبين ربه، ويدخرها ليوم فاقته وفقره، ويسترها عن خلق الله، لكي يصل إليه نفعها وهو أحوج ما يكون إليه)
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم والسلف من بعدهم يحرصون حرصا شديدا على إخفاء عملهم حتى لا تشوبه شائبة ولا يدخل فيه الرياء مهما كان يسيرا ، فكانوا لا يظهرون إلا ما ينبغي أن يظهر ولا سبيل إلى إخفائه من العبادات مثل صلاة الجماعة في المساجد والجمع والحج.
ما أجمل أن يكون للإنسان حال بينه وبين الله لا يطلع عليه أحد أبدا حتى أقرب الناس إليه وألصقهم به!!
هل فكرت يوما أن تقوم في ظلمة الليل متسللا من فراشك لتناجي ربك وتتضرع بين يديه بعيدا عن دفء الفراش وحضن الأبناء؟
هل فكرت يوما أن تقتطع من راتبك جزءا يسيرا لا يعلم به أحد إلا أنت لتعول به أيتاما فقدوا عائلهم ، أو أرملة مات عنها زوجها وخلفها بلا نفقة؟
هل فكرت يوما أن تجعل لك خبيئة من صوم لا يطلع عليها أحد إلا أنت؟
هل فكرت أن تعيش مع كتاب الله متدبرا ومتأملا آياته بعيدا عن أعين الناس ؟
هل فكرت أن تجلس في خلوة وتتلذذ بذكر الله بعيدا عن مشاغل الدنيا ومتاعبها أو مطالب الزوجة والأبناء؟
هل فكرت أن تقتطع من وقتك جزءا يسيرا لا يعلم به أحد لقضاء حوائج الضعفاء من الناس وتفريج كرباتهم بما حباك الله من قوة؟
هل فكرت أن تسلك مع السالكين وتسير مع ركب المهتدين بعيدا عن أعين الرقباء من أجل العمل لرفعة هذا الدين والدعوة إلى الله بقدر استطاعتك؟
إذا لم تكن قد فكرت يوما في هذا الأشياء ، فابدأ الآن ، فما زالت الفرصة قائمة. تخير لك عملا من الأعمال الصالحة التي تناسب قدراتك واجعله بينك وبين الله ولا تطلع عليه أحدا أبدا حتى أقرب الناس إليك ، وداوم عليه مهما كان انشغالك ومهما كانت الظروف فإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل .
إن إخفاء العمل الصالح علامة من علامات إخلاص العبد لله ودلالة على صدق التوجه والرغبة فيما عند الله ، والإخلاص هو أهم أعمال القلوب وأعلاها وأساسها، وهو حقيقة الدين ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء}البينة.
وتحقيق الإخلاص ليس بالأمر الهين اليسير ، وإنما هو أمر عسير يحتاج إلى مجاهدة. قال بعض السلف: ” ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص “.
وقيل: ” من سلم له من عمره لحظةٌ واحدةٌ خالصةٌ لوجه الله نجا “، وذلك لعزة الإخلاص، وعُسْرِ تنقية القلب عن الشوائب.
حُكى عن بعض العبّاد: أنه كان يصلى دائماً فى الصف الأول، فتأخر يوماً عن الصلاة فصلى فى الصف الثانى، فاعترتْه خجلةٌ من الناس حين رأوْه فى الصف الثانى، فَعَلم أن مسرته وراحة قلبه منِ الصلاة فى الصف الأول كانت بسبب نظر الناس إليه، وهذا دقيقٌ غامضٌ قَلّما تسلم الأعمال من أمثاله، وقلّ من ينتبه له إلا من وفقه الله تعالى.
ولذلك حرص الصحابة رضوان الله عليهم ومن جاء بعدهم من السلف على إخفاء أعمالهم وكان عمل الخلوة أحب إليهم من عمل الجلوة ، وقد ورد عن السلف الكثير من القصص في هذا المجال:
للإمام الماوردي قصة في اخفاء عمله خشية أن تشوبه شائبة من رياء ، فقد ألف المؤلفات في التفسير والفقه وغير ذلك ولم يظهر شيء في حياته ولما دنت وفاته قال لشخص يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإنما إذا عاينت الموت و وقعت في النزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء فاعمد إليها وألقها في دجلة بالليل وإذا بسطت يدي فاعلم أنها قبلت مني وأني ظفرت بما أرجوه من النية الخالصة، فلما حضرته الوفاة بسط يده، فأظهرت كتبه بعد ذلك.
أما زين العابدين عليُّ بن الحسين رحمه الله فقد كان يحمل أكياس الدقيق على ظهره بالليل ويوصلها إلى بيوت الأرامل والأيتام والفقراء، ولا يستعين بخادم ولا عبد لئلا يطّلع عليه أحد، فلما مات وغسّلوه وجدوا على ظهره آثاراً سوداء، فقالوا: هذا ظهر حمّال وما علمناه اشتغل حمّالاً! وانقطع الطعام بموته عن مائة بيت كان يأتيهم طعامهم بالليل من مجهول، فعلموا أنه هو الذي كان يحمله إليهم وينفق عليهم.
وهذا داود بن أبي هند يصوم أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان يحمل الطعام صباحاً إلى دكانه فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشياً إلى أهله فيُفطر معهم؛ يظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهله أنه أكل في السوق!!
يقول الحسن رحمه الله: إن كان الرجل ليجمع القرآن ولما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لينفق النفقة الكثيرة ولما يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته ولم يشعر الناس به، ولقد أدركت أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملونه في السر فيكون علانية أبداً.
هكذا كان سلفنا يحرص كل منهم أن يكون له حال مع الله وخبيئة لا يطلع عليها أحد إلا الله ، كانوا رحمهم الله يخفون حسناتهم وأعمالهم الصالحة ،ومع ذلك فقد عرفنا الكثير عنهم وعن جلدهم في العبادة وصبرهم على الطاعة. لقد تحدثت عنهم أعمالهم لأنها كانت أعمالا خاصة لله نقية من كل شائبة.
-
جهلان إسماعيلأبحث عن الحقيقة وأنشد الصواب في عالم اختلطت فيه أفكار البشر بهدايات السماء وظلمات الباطل بنور الحق.