علمانية علمانية ... حديث شريف !!
أفق الخروج من الأزمة
نشر في 19 يوليوز 2016 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
يبدو أن العنوان استفزازي فنعتذر ، لأنني أظن أن العرب لا يتقبلون أي فكرة إلى إذا كانت متلبسة بعباءة دينية ، قادمة من مجاهل التاريخ الإسلامي راكبة على حصان أحد الصحابة أو التابعين أو الصالحين ، فلا يفهمون أو لا يريدون أن يفهموا أننا في عصر غير عصر النبوة و الخلافة و أهل الحل و العقد ، و أننا لا نعيش في عالم سياسي يخاطب الآخر بعبارة " أسلم تسلم " و يفرض الجزية على المختلف عقديا . فوسط كل هذا الإقتتال و الدماء و الأشلاء ، الذي تسبب في وقوعه التسييس بالدين ، لا نجد بدا عن فصل الديني عن السياسي ، عن طريق نور العلمانية , من أجل الخروج من المأزق الحضاري الذي وقعنا فيه ، أو أوقعنا فيه الإسلام السياسي الذي يظن أصحابه أنهم ناطقون باسم السماء , في حين أنهم في الحقيقة ليسوا إلا انتهازيين متملقين و متطلعين للسلطة و المخجل أنهم لا يرون سلما يصعود بن نحو الحكم إلا بجعل الدين مرتهنا لسياستهم الفاسدة .
يقال أن العرب انتفضوا في ما يسمى بالربيع العربي من أجل إدراك مجموعة من المحاسن من بينها الديموقراطية ، و الحقيقة أن هذه الأخيرة لا يمكن أن تنبت في دول دات طابع سياسي إسلامي ، ذلك بأن للنظام السياسي الديموقراطي شروطا ثلاثة تنعدم في البيئة السياسة العربية ، و تحديدا في بلدان الثورة ، هذه الشروط هي : " الحرية " بما هي جوهر النظام الإجتماعي و السياسي و بما تتضمنه كذلك من حرية في المعتقد و استبداله متى شاء المواطن وفق قناعاته ، ثانيا " العقد الإجتماعي " بما هو ماهية النظام السياسي المدني و هذا غير ممكن لأن بعض الأنظمة العربية "ملكية" تتعامل عن طريق مبدئ " توريث الحكم " و هو ما يجعل مبدئ التعاقد بين الحاكم و الشعب مبدئا فاقد لكل اعتبار ، ثالتا " علمنة الدولة أو فصل الديني عن السياسي في الحياة العامة و في مؤسسات الدولة . سنهتم في مقالنا هذا بالعلمانية فقط كنهج حكم ، فماذا تعني ؟
نستهل التحليل بالإشارة إلى أن العلمانية من أكثر المفاهيم في قاموسنا اللغوي تعرضاً للحيف التفسيري و الخلط الشديد عن عمد أو عن جهل ، و الملاحظ أنها أصبحت وصمة عار لكل من يتلفظ بها أو يتبنى أفكارها ، إن هو بذلك قد اقتربت رقبته من مقصلة التكفير و اصبح هدفاً لحد الرده ، لذلك و سعيا لفك الارتباط الشرطي بين العلمانية والإلحاد ، و حتى نفهم الأمور في سياقها دون تشويه من طرف تجار الدين , آثرنا أن نثري المجال الفكري بمقالنا البسيط هذا .
بداية لنتفق على الأصل اللغوى لكلمة "علمانية" التي هي المقابل العربي لكلمة Secularism في الانجليزية أو Seculaire في الفرنسية ، وأصول الكلمة تعني يستولد أو ينتج أو يبذر أو يستنبت من الاهتمامات الدنيوية الحياتية ، ومن هنا فإنها استخدمت كصفة أيضا لأصحاب هذه الاهتمامات الدنيوية ، فالدقة الكاملة لترجمتها كما يشير "د. فؤاد زكريا" هي "الزمانية" انها ترتبط بالأمور الزمنية ، يعني بما يحدث فى هذا العالم ، وقد كان المترجمون الشوام قديما يستعملون لفظ العلمانية كترجمة للكلمة الفرنسية LAIQUE او الانجليزية LAICISM وهى المأخوذة عن اللاتينية LAICUS أي الإنسان الذي لا يحترف الكهانة تمييزاً له عن رجال الدين ، هذا عن المعنى اللغوي والذى كما رأينا لا يعني الإلحاد لا من قريب ولا من بعيد بدليل أن القس الذي لا يخضع لنظام كنسي محدد ، يطلق عليه "Secular priest" أي قس علماني وليس قسا ملحدا !!
وعليه فالحقيقة أن العلمانية ليست هى "" المقابل "" للدين ولكنها المقابل للكهنوتية ، العلمانية هى التي تجعل السلطة السياسية من شأن هذا العالم والسلطة الدينية شأنا من شؤون الله , لذلك نجد في جوهرها التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين .
من الملاحظ أن خلط الدين بالدولة يفسد الدولة والدين معا ، فهذا الأخير هو عبارة عن ضمير ، رباط روحي بين الانسان و ربه ، لكن الوطن ملكية مشتركة و ساحة لكل الشعب يواجه فيها تحديات الحياة و لتحقيق ذلك الفصل بين النشاط الديني و النشاط الوطني مبدأ أساسي في النظم الديمقراطية التي لازم أن تحترم حتى لا يستغل أحدهم الدين لتنفيد أجنداته السياسة .
* ما يجب علينا أن نفهمه :
ما يجب علينا أن نفهه هو أن الإسلام هو عبارة عن " دين " , ليس "سياسة" و ليس " دولة " ، لذلك وجب تمييز أحدهما عن الآخر حتى تتضح الرؤية ، أيضا يجب أن نقتنع بأن زمن الخلافة و الجزية و الفتوحات قد أدبر و ولى ولن يعود أبدا ، هذا من جهة من جهة أخرى يبدو من التاريخ الإسلامي أن تجار الدين إذا أحسوا بخطر على أرزاقهم المشبوهة لجؤوا إلى التمسك بحبل قصير وهو "تكفير" الجهة التي تفضح اختلاساتهم و تعلن كيف يسرقون بيد الدين . و كحدث من التاريخ فقد *سرق* الصحابي الجليل " عبد الله ابن عباس " بيت مال المسلمين في البصرة حين كان واليا عليها في زمن " علي ابن أبي طالب" ، حيث أرسل له رسالة أمير المؤمنين علي يدعوه فيها أن يعيد المال لأهله ، فجاء رد *ابن عباس* كالآتي : " لإن لم تدعني من أحلامك ، لأحملن هذا المال لمعاوية يقاتلك به " ، حيث كان صراع سياسي إسلامي كذلك في التاريخ بين الصحابيين "معاوية ابن أبي سفيان" و علي ابن أبي طالب" ، حيث عمل الثاني انقلاب على الأول من أجل الضفر بالحكم و السلطة ، ذلك و قد كان بينهما حروب ضروس ذهب ضحيتها أكثر من 5000 مسلم ، حيث يذكر المؤرخون أن علي ابن أبي طالب لوحده قتل في آخر يوم من معركة صفين 500 مسلم من جيش معاوية فقط لوحده . طيب يا من تنادون بالخلافة و تطبيق الشريعة و إعمال الإسلام السياسي في الشعوب , هل تريدون أن يتكرر تصرف ابن عباس من جديد ؟ إن لم يكن يتكرر كل يوم ، و أما فضيحة اختلاسات " بنما" مؤخرا إلا مثال حي على ذلك . ف رئساء و ملوك المجمتعات الدينية سرقوا أموال شعوبهم في حين أن بلدانهم في ذيل الأمم اقتصاديا - سياسيا - علميا - ثقافيا و أخلاقيا , هل تريدون أن نتحارب في ما بيننا كما تقاتل و تناحر جيش علي و معاوية على الحكم باسم الإسلام هذا من أهل البيت و هذا من دوحة النبوة و هذا صحابي ... ؟ فلا أعاد الله علينا هذا الخزي .
لذلك يجب أن نستسيغ أننا كلما أقحمنا و زاوجنا الإسلام بالسياسة ، كلما ظهرت لنا نتائج عكسية على الساحة تدمر بلداننا و تفقدنا الأمن و السلام و تسد الأفق أمام آمالنا في كل ما هو حضاري يليق بشرف الإنسان ، فوظيفة الدولة ليس هي ضمان الجنة للمواطن ، لكن وظيفتها ضمان دخوله للمدرسة حتى يتعلم ، و توجد له المستشفى حتى يتعالج ، و تخلق له سوق عمل حتى يشتغل و يعيش ، و فى نفس الوقت تمنحه حق حرية التفكير و تتركه يفكر على هواه و يعبر عن آرائه بحرية و يمارس طقوس دينه و فلسفته الروحية دون مضايقات ، و عليه في الدولة العلمانية حرية الاعتقاد مكفولة للجميع دون استثناء . وبهذا فإن العلمانية لا تعادي الدين بل تحرس وجوده وتسهر على سلامة المعتقدين به ، و هذا عكس ما يروج له من يمتهنون سرقة الناس بأحذولة الدين .
نموذح حي :
حري بالذكر أن في العراق قدم أول حزب علماني ( الحزب الحر العلماني ) سنة 1969 مشروعا سياسيا للبلاد على أمل تطبيقه في أفق النصف الثاني للقرن 20م ربما لو ثم العمل به لامتد حتما حتى الآن ،قبل كل ما يجري اليوم في هذا الشعب الضحية للكهنوتية و الطائفية :
* لائحة المطالب و الأهداف التي لا تزال صالحة اليوم كما صلحت بالأمس :
1- تحرير العقل و الروح و نشر حرية التفكير و الكلمة و التصرف بكل الوسائل المشروعة .
2- العمل بلا هوادة و بكل الطرق القانوية من أجل فصل الدين عن الأنشطة السياسية .
3- الإحتجاج بقوة ضد أي عمل ديني يضر بوحدة الشعب .
4- تحقيق الأهداف المتركة وفق التغييرات التشريعية ، و ذلك بالمشاركة في الإنتخابات النيابية .
5- نشر التسامح الديني في كل ربوع الوطن .
6- فضح انحرافات رجال الدين في سلوكهم المناقض لجوهر الأديان ، و جمع ما شتته هؤلاء بالطائفية و المذهبية !
7- عقد اجتماعات عامة في الساحات المومية أو عبر برامج متلفزة بهدف تعريف الشعب بأحدث الأفكار العلمية و الإجتماعية ... و اطلاعهم على آخر التطورات الدولية .
8- تحرير المرأة العربية من أغلال الإنحطاط و الجهل و الدونية .
9- ترويج مشاعر الإنسانية و المواطنة و الأخوة بين الناس .
10- النظر إلى كل البلاد العربية على أنها بلد واحد .
أترك لخيال القارئ تصور ما كان سيصبح العراق عليه من ازدهار و تفتح و تقدم و تنمية و تقبل للآخر و انفتاح على كل الثقافات ، لو طبقت هذه البنود , خصوصا و أن بلاد العراق أول من عرفت الحضارة في التاريخ ، كما يتميز هذا البلد الغني طبيعيا بجغرافية شاسعة و ترواث طبيعية هائلة ، فضلا عن ذلك الشعب العراقي في النصف الثاني من القرن 20م صنف كأكثر شعب قارئ مستهلك للكتاب على المستوى العربي ، و هو ما يشكل دافعة نحو التنمية بكل ضروبها ، لكم للأسف تخطفت الطائفية و المذهبية و الإسلام السياسي هذا البلد إلى أقصى درجات الهشاشة الإجتماعية و التقهقر الحضاري و التكفير و الدم .
كان يمكن للعراق أن ينفلت من كل هذا الجحيم الذي تسبب فيه الإسلاميين ساسة و فقهاء سنة و معممين شيعة ، بالعلمانية كنهج سياسي و مبدئ أخلاقي يجمع كل هؤلاء بصفتهم "مواطنين" ، حيث ستبلغ المواطنة للعراق و الإنتماء للدولة درجة أرفع و أقدس من المذاهب و الطوائف و الأعراق و كل التنوع الثقافي الذي يعرفه هذا البلد . و بذلك كان له بهذه الطريقة أن يتجنب الصراع الذي لا زال أواره لم ينطفئ بعد . و كان يمكنه بذلك أيضا أيضا العدول عن ترك اختيار الحرب التي وقودها الشعب دئما الذي ذبل و اضمحل أمله في الحياة بسبب هذه الطريقة في الحكم و التسييس !!
فما هي الطريق الذي يجب أن نسلكه للحيلولة دون سرقة حقوقنا بدعوى القداسة ؟؟
* العلمانية كحل من حيث حقوق المواطنة وأسسها الدستورية :
تجدر الإشارة هنا أن كل بلد إلا و يتميز بتنوع في الدين - الثقافة و الهوية ، وعليه فالعلمانية تشرعن دستورا يقف ورائه كل أفراد هذا التنوع بغض النظر عن إنتمائهم الديني و العقدي و الطائفي و العرقي و السياسي و الأيديولوجي ، لذلك الدولة العلمانية لا تجعل الدين أساسا للمواطنة وتفتح أبواب الوطن للجميع من مختلف الأديان ، حيث تتعامل الدولة بهذه الطريقة مع المواطن و ليس مع المسلم أوالمسحي أو الملحد بل تضع كل هؤلاء وغيرهم في مرتبة واحدة ، دون مفاضلة أو تحيز .
* أسس الدولة العمانية تتمثل فيما يلى :
أ- أن حق المواطنة هو الأساس فى الانتماء ليس المعتقد الديني .
ب- أن المصلحة العامة هي أساس التشريع ، و هو الأساس فى الحكم الدستوري الذي يساوي بين جميع المواطنين ويكفل حرية العقيدة دون محاذير أو قيود ، وكل من اعتدى عن طقوس غيره الدينية بدافع عنصري أو طائفي يتعرض لعقوبات زرجية .
ج- إن نظام الحكم مدني يستمد شرعيته من الدستور ويسعى لتحقيق العدل من خلال تطبيق القانون ويلتزم بميثاق حقوق الانسان .
أخيرا أترك للقارئ حرية الإختيار , فما هو المجتمع الأمثل للحياة و العيش ، العلماني الذي يجمعنا جميعا و يراعي الظرفية التي نعيش فيها ( القرن 21م قرن الحضارة و التدفق العلمي المعلوماتي الهائل ) أم المجتمع الكهنوتي الذي أفرز لنا الحكم الواحد و حركات الجهاد و التكفير كتنظيم داعش و جبهة النصرة و القاعدة ، و غيرها من التنظيمات الإرهابية التي تريد أن تحقق أجندة سياسية بتوضيف الدين و استدماج الجانب الروحي في اللعبة السياسية ؟؟؟