خلال إحدى دورات الفوتوشوب التي كنت أتابعها على الانترنت، تدخل أحد المشاركين المخضرمين في المجال قائلا بحيرة :
"أنا أجيد التعامل مع البرنامج بشكل تام، بل وأكثر من ذلك، أتقن العمل على كافة برامج باقة الأدوبي في كلّ مناحي التصميم والانفوغرافيك والمونتاج وغير ذلك ..أتقن ذلك ببراعة، لكن مع ذلك لم استطع تقديم انجاز حقيقي أعتد به، تنقصني الفكرة، وتعوزني الإضافة التي يمكن أن أنسبها إليّ دون أن أكون قد وقعت في فخ التكرار أو السرقة الإبداعية ..أريد أن أكون فنانا حقيقيا لا مجرد مجتر لأفكار الآخرين!"
لم يكن هذا التعليق مجرّد تذمّر عابر، ولا هو تنفيس عن طموح مبالغ فيه من طرف متخصص في مجاله، إنه تعبير عن جدلية تمس كلّ عوالم الفن والإبداع ، إنها جدلية "الحرفة والفكرة " التي بفضلها يمكن التمييز بين "الفنان" و "الحِرفي"، فصاحبنا أعلاه أدرك أنه باتقانه للأداة (برامج التصميم) لم يرتق أبدا إلى رتبة فنان، وأيقن انه بالأداة وحدها لم يكن سوى حرفيّ فقط ، ولهذا أصبح ينشد اكثر من مجرّد حرفة ، ينشد "الإبداع" الذي يقوم على الفكرة والتي قوامها الإلهام والموهبة ، وهذان امران لا يتوفران في كافة النّاس ، فالفنان إذن هو مؤلف تجتمع فيه الحرفة والفكرة في آن معا، أما الآخرون فيتدرجون كحرفيين يقتاتون على عبقريته ويبنون على أفكاره المتوالدة نُسخهم ، و ايضا أسماءهم..
في مجال الكتابة تظهر هذه الجدلية بوضوح تام بين كتاب عباقرة يزاوجون بين الفكرة والاسلوب باقتدار، وبين أيتام الحرف الذين يهيمون بين اسلوب بارع و خواء رهيب في المعنى والأفكار، كثيرة هي هذه النماذج وبخاصة في عالم التواصل الاجتماعي اين اختلط الحابل بالنابل ولم يعد من السهل التمييز بين الكاتب والكويتب والمتطفل على عالم الكتابة، والحق أن حرفيي الكتابة لا يعوزهم جمال الحرف ولا بلاغة الوصف ، بل أكثر من هذا يمكن تصنيفهم كتابا بجدارة، غير أن ثغرة الفكرة تبقى عالقة بنصوصهم ومؤلفاتهم، وهوية كتاباتهم ملحقة على الدوام بغيرهم، تتحسس ضياعهم في المواضيع التي يتخيرونها فتارة تجدهم في عالم الخواطر ، وتارة أخرى يتيهون في موضة النمط العاطفي المبتذل، الأداة موجودة اما الجديد ..فلا شيء !
لعل أفضل مثال على أزمة حرفيي الكتابة في عالمنا العربي هو ما جاءت به أحلام مستغانمي وما تلاه من نُسخ طبق الاصل لمؤلفاتها، أحلام أتقنت الأسلوب وأبدعت الفكرة وعرفت كيف تكيف عبقريتها مع متطلبات السوق الأدبية فنجحت، اما المؤلفات المستغانمية التي هطلت بعد ذلك شرقا وغربا فقد كانت محض تقليد مبتذل عرّت اصحابها أكثر مما شهرتهم في عوالم الكتابة..ليس من ناحية الفكرة وحسب بل ومن ناحية الاسلوب المنسوخ أيضا ..!
إلى كل مشروع كاتب أو مشروع فنان ، وحدها الحاجة للإبداع هي التي تجعل منا مبدعين ، وحدها تلك الرغبة الجموح في البوح بأي لغة و بأي أداة هي التي تقرر متى نبدع ، ومتى نعرض..القلم لا يُستنطق والحرف لا يُستكتب ، والرّيشة لا تُمتر، والوتر لا يُستنزف، إن وجدت الفكرة وإن حضر الإلهام فالحبر سيمور سيالا، واللحن سينسكب عذبا سخيا ، والألوان ستنهمر باذخة غزيرة ..وإن لم تحضر فأن تكون لاشيء خيرلك من ان تكون نسخة رديئة عن فنان آخر..!
-
فاطمة بولعناناليوم حرف وغدا حتف
التعليقات
للكتابة الإبداعية التي تزاوج بين جمالية الحرف و إيصال الأفكار أثر كبير في النفوس.
حضرتك ذكرت مجال التصميم كمقدمة جميلة ومن خبرتي في العمل في المجال فواضح أن كثرة الأدوات و التمكن منها هو شيء جيد، لكن الأساس هو الإبداع و إتقان العمل.
وحب المجال هو ما يجعلك تبدع و تتقن، أما التطفل على المجالات بهدف الربح أو الشهرة، فهو سحابة عابرة . الأداة و الوسيلة تسهل الإنتاجية فقط.
الكتابة في يومنا هذا لم تسلم من التطفل أيضا سواء الورقية أو الإليكترونية (خصوصا)، ما يجعل مشروع الكاتب محدودا أو قد ينتج عن العملية وعيا مشوها خصوصا في حالة التأثير في جماهير عريضة.
شكرا على المقال المميز أستاذة