وقعت شعوب منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط في مهاوٍ لا متناهية بشأن انتشار فيروس کورونا ، بحيث توزعت اتجاهات التفاعل الشعبي بين من فسر الوباء بأنه عقاب إلهي ، ومن رأى فيه حربا بيولوجية ، ومن اعتبره مؤامرة خارجية . في نظرك ، كيف يمكن فهم هذه التفسيرات المستغرقة في الفكر والأسطوري ؟
حين تقع الأزمات تبحث كل أمة ، عن التفسير والحلول في مخزونها الثقافي . الأمم المتصالحة مع العلم تبحث عن السبب العلمي للأزمة ، وتبحث أيضا عن المخرج العلمي من الأزمة . أما الأمم الغارقة في الضعف والجهل ، فتبحث عن الأسباب في نظريات المؤامرة أو لعنات السماء ، وتبحث عن الحلول في الرقية الشرعية والطب النبوي . العقلية العلمية تعلم أن الأسباب معقدة والحلول صعبة ، بينما العقلية الخرافية عندها سبب واحد لكل بلاء ، وعلاج سهل لكل علة .
لذلك ، بدأ الغرب بتحليل التركيبة الجينية للفيروس المستجد واخترع أجهزة لاختبار الإصابة به ، ثم عكف على تطوير أمصال قد تستغرق شهورة وسنوات حتى تصير متاحة للاستعمال . أما في بلادنا ، فقد تمت أسلمة الفيروس ؛ فسميناه جائحة بدلا من وباء ، ثم اعتبرناه عقاب من الله للصين بسبب اضطهاد المسلمين هناك ، ثم اعتبرناه عقابا لإيطاليا وفرنسا وإسبانيا بسبب الحروب الصليبية ، ثم قال البعض إنه رسالة من الله حتى تتحجب النساء ولا يختلطن بالرجال ، وحتى يتم إغلاق الحانات والمراقص . لم ينتبه هؤلاء أنهم - دون قصد - كانوا لا يمدحون دينهم ، بل كانوا يقارنونه بوباء قاتل . انتعش العقل السلفي في الشبكات الاجتماعية خلال « زمن كورونا » مغيبا المقاربة العلمية في تفسيره الوضعية الوبائية في العالم ، مستعينة بالوصفات الشعبية غير الطبية لعلاج « کوفید -19 » رغم الخطر الصحي الذي قد تشكله على صاحبها . ما الذي يعترز التصور الثيولوجي في مجتمعاتنا بشأن الكوارث الطبيعية والأوبئة ؟
العقلية السلفية ترى أن الدين هو أصل كل العلوم ومنتهاها ، فلا أحد منهم يستعمل خارطة للعالم من القرن السابع الميلادي إذا أراد الإبحار ، ولا أحد يركب الجمل أو الحصان لو أراد السفر من شعب إلى القدس ، لكنهم يظنون أن نفس الوصفات الطبية الصحراوية من القرن السابع تكفي لعلاج أمراض القرن الحادي والعشرين . بعض السلفيين مصابون بحالة من الإنكار ، لأنهم لا يريدون الاعتراف بأن العلاج يأتي به کافر من الغرب ولا يأتي من حديبي للرسول . لا يفهمون أن الرسول جاء بحلول لزمانه لا الزماننا ، كما أنه لم يكن طبيبا ولا عالم أوبئة ، وأنه نفسه مات بالحمى . يبدو أن هناك استسهالا للحديث في الدين الإسلامي بمجتمعات المنطقة ، وهو ما زاد أكثر خلال فترة الأزمة الوبائية ، فكلما وقعت ظاهرة معينة نجد الأغلبية تفسر تمفصلاتها بشكل وثوقي ، وتحلل النصوص الدينية كيفما شاءت وتسقطها على تلك الواقعة . لماذا يتحدث الجميع في الدين بطريقة يغلب عليها الاستسهال ، لا سيما في مواقع التواصل الاجتماعي ؟
كما ذكرت ، الموضوع له علاقة بالإنكار والاستعلاء . الخطاب الديني غرس في وعينا الجمعي أن البلاء من عند الله والدواء من عند الله ، كما قال عن الكافرين : « وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا » ؛ أي إن كل ما عمله الكفار من علم وطب ونفع للبشرية لا يساوي عند الله شيئا لأنهم لا يؤمنون بالله . وهذا سر عداء مجتمعاتنا للعلم ، أولا لأننا لا نتقنه ، والمرء عدو ما يجهل ، وثانية لأن « الكفار » هم من يعلموننا إياه ، وهذا ضد ادعائنا بأننا خير أمة أخرجت للناس . الجرح النرجسي في مواجهة الغرب يجعلنا ننسحب دائما للدين ، ونبحث فيه عن جواب لكل سؤال . وجدت العديد من الأنظمة السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا صعوبات كبيرة في إقناع مواطنيها بقرار إغلاق المساجد ، رغم الخطر المحدق بالمصلين بسبب التداعيات الصحية المترتبة عن الوباء . ما الذي أدى إلى سيطرة العاطفة الدينية المبالغ فيها على الإنسان رغم علمه أن الدين الإسلامي يدعو إلى عدم الإلقاء بالنفس إلى التهلكة ؟
حين يكون الدين جزء من هوية الإنسان ، يلعب دورة إيجابية لأنه يمنح الإنسان السكينة والأمل ، ولكن حين يكون الدين هو كل هوية الإنسان ، فيصير معادية لكل ما سواه من هويات ومصالح . الخطاب الديني عظّم من دور الدين في المجتمع وجعله المشرع والطبيب والحاكم والمصرفي . وحين جاء وباء « كورونا » كان على المسؤولين معاملة المساجد نفس معاملة دور السينما ، لأن كليهما صار بؤرة يمكن أن تنشر الوباء . كان على أصحاب السينمات ومشاهدي الأفلام قبول قرار الإغلاق ، أما بعض أئمة المساجد وبعض المصلين شعروا بالهزيمة لأنهم يعتبرون المساجد بیت الشفاء لا بيت الداء . هو جرح نرجسي جديد ، حيث لم تكن المساجد هي بيوت المشورة وقت الأزمة ، بل جزء من المشكلة ، وتقلص دور رجال الدين بعد أن كانوا معتادين على إرشاد الناس في كل صغيرة وكبيرة . ومن هنا جاء التذكر ومقاومة إغلاق دور العبادة . وللأمانة هذه ليست ظاهرة إسلامية فقط ، فبعض المسيحيين في الشرق والغرب رفضوا أيضأ إغلاق الكنائس ورفضوا تعطیل طقس التناول ، وقالوا إن أبناء المسيح لا تصيبهم العدوى ، خاصة في الكنائس .
الخطاب الديني التداول في الأحاديث العامة والخاصة للأفراد خلال تفشي « كورونا » أصبح يسائل الاستراتيجيات الدينية المعتمدة في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا طوال عقود مضت ، بعدما راهنت كثير من الأنظمة على تشجيع أصحاب الفكر الديني المتشدد لضمان شرعيتها السياسية . هل نحتاج إلى إصلاح دیني جذري بعد انحسار الوباء ؟ نحتاج إلى إصلاح سياسي وفكري أولا . كل دولة استخدمت الدين لضمان شرعيتها السياسية كانت تربي فرانکشتاین . وهذه الدول انكسرت فيما بعد إما بسبب انقلاب الجماعات الدينية على السلطة ، أو بسبب الإرهاب ، أو بسبب مقاومة الجماعات الدينية للإصلاحات الضرورية . بلادنا على مفترق الطرق ، وعلينا أن نتصالح مع العلم ، ومع الغرب ، ومع باقي البشرية . علينا أن نعيد النظر في اقتصادنا ، لذلك لا بد أن نهتم بالبحث العلمي وحرية الكلام وحرية العقيدة ، لأن المجتمعات غير الحرة لا تنتج علومأ ولا اختراعات ولا اقتصاداً حراً. وعلينا ألا نحابي العقلية الدينية ولا المشاعر الدينية على حساب العلم والمنطق والإنتاج . على السياسيين أن يعلموا أن البقرة التي كانت تدر لهم حليب الشرعية أصبحت تلتهم أكثر مما تنتج ، وعليهم أن يوقفوا هذه اللعبة التي قد تتسبب في دمار بلادهم !
قضية « التراث » و علاقتها بالهوية تثير الكثير من الجدل ، حيث تسود القراءات التراثية التمجيدية بدون استحضار العقل النقدي في المرحلة الراهنة ، وهي مسألة تطرق إليها محمد عابد الجابري الذي أكد أن أغلب فكرنا المعاصر إما نتاج وضعية مضت أو نتاج وضعية لم نعشها بعد . ما منظورك للتعامل مع مقروئنا التراثي ؟ فهم تراثنا مهم حتى نفهم أنفسنا اليوم ونفهم الآخر . أنا ضد القطيعة مع التراث وضد تمجیده أيضا ؛ القطيعة تحرمنا من إمكانية فهم ماضينا ، وبالتالي فهم حاضرنا ، والتمجيد دون وجود فکر نقدي يجعل من التراث قيدا يعيق تحركنا ، فيحكمنا أجدادنا من قبورهم ، لكننا لا نستطيع أن نفهم التراث بالتراث ، ولا نستطيع تفسير القرآن بالقرآن . نحتاج إلى أدوات حداثية مثل الفلسفة وعلوم اللغة والاجتماع والتاريخ كي نفكك التراث ، ونضعه في سیاق عصره حتى نفهم من أين أتي . وحين نفهمه جيدة لن نكون بحاجة للصدام معه ، ولكن نستطيع أن نتركه ونمضي كما يترك الطفل طفولته خلفه ويصير رجی ومع ذلك تبقى الطفولة جزء مهم من ذاكرة وهوية الرجل . تعجبني مقولة للفيلسوف الدنماركي سورين كيركيجارد : « لا تفهم الحياة إلا بالرجوع بالذاكرة إلى الوراء ، ولكنها لا تعاش حقا إلا بالمضي إلى الأمام ! »
-
Kinan khateebصديق الكتب