صناعة الفيلم بنظرة فيللينية .. جريان بريء كالحلم - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

صناعة الفيلم بنظرة فيللينية .. جريان بريء كالحلم

أمل ممدوح

  نشر في 20 مارس 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

  أمل ممدوح 


     "الواقعي الحقيقي هو الحالم خصب الخيال"..هذا رأي فيلليني؛ المخرج الإيطالي فيديريكو فيلليني (1920- 1993) أبو السينما الإيطالية الذي قوض دعائم الواقعية الجديدة ساعيا لحقيقة الواقع لا شكله بنظرة لصورته الأنقى اللاواعية الأكثر صدقا "يتحلى كل شيء بالبراءة ما أن تتركه وشأنه"، فكل شيء له قصته الباطنية المجردة المفسرة وكل شيء حوله يحمل جزءا منه بما يمكن أن يشكل سيرة ذاتية، وكل شيء لديه قابل لسرد كالأحلام كمحض واقع، وفي كتابه "كيف تصنع فيلما" الذي كتبه بطريقة المذكرات والسيرة الذاتية؛ فر فيه كعادته من التقليدية والجمود فصاغه بأسلوب الحلم والتداعيات الحرة الواعية واللاواعية، قد لا تجد تسلسلا تقليديا واضح المنطق أو معلومة مرتبة منهجية لكنك ستعرف كيف يعمل هذا العقل الفيلليني ومن ثم ستعرف كيف يصيغ أفلامه دون أن يشعرك بتلقين، سيصحبك للامتزاج بعقله لدخول عالمه ومشاركته ما يراه فتفهمه، ستلاحظ تعبيرات مبتكرة غير معتادة ومعان فلسفية عميقة مكثفة ببساطة بلا ادعاء أو اصطناع، ستجد حكاء ماهرا يجعل أبسط الحكايات عالما فريدا، يتتبع أفكاره المتوالدة بصور متدفقة مدهشة كعالم سحري..يخلط الحاضر بالماضي والملموس بالذكرى والواقع بالحلم كما كياناتنا، بحس ساخر من كل شيء حتى نفسه، وتشريح للإنسان الفرد وللمجتمع خاصا وعاما بروح فنان فيلسوف، في هذا الكتاب الصادر عام 2010 عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث بترجمة ناجي رزق وسهيلة طيبي عن الأصل الإيطالي"Fare Un Film " الصادر عام 1974، في 334 صفحة من القطع المتوسط متضمنا تمهيدا وأربعة فصول هم شهادة ذاتية لمشاهد و صناعة السينما و كتاب شيق و قائمة الأفلام؛ نتوقف مع الفصل الثاني" صناعة السينما" والذي أهداه فيلليني لزوجته الممثلة "جوليينا" وآخرين بعدها ممن حثوه للحديث عن تجربته، وهو فصل يمثل ثلثي الكتاب وأكثر (260 صفحة) قسمه إلى 14جزءا مسلسلا كل جزء يخص فكرة عن العمل السينمائي بشكل أو بآخر..يسرده بضمير المتكلم وبأسلوب سرده السينمائي لأفلامه والتي يستدعي الكثير منها..مستدعيا نشأة فكرتها وروحها وماسيطر عليه فيها متنقلا بانسيابية من فكرة لغيرها متطرقا تراكميا لكل عناصر الفيلم السينمائي وفلسفته لديه وتجربته معه..فالمعنى في التجربة ذاتها وعمقها وهو ما يدعوك إليها معاملا قارئه كمشاهده معتبرا حديثه عن تجربة الصناعة حديث عن الصناعة، يلقي لك خيوط عالمه وشفرة عقله لتلتقطها وتسير معه إن أردت، فإن كنت مغرما بالأعماق متحررا من الخطوط سيفيدك ويمتعك كثيرا هذا الكتاب بأسلوبه الفريد وصوره البصرية الساحرة وبوحه شديد الاختلاف ..




 تأملات في الستشفى ...

  كان الهاتف عنكبوتا ضخما فصار مجرد هاتف في المستشفى

 يتحلى كل شيء بالبراءة ما إن تتركه وشأنه



1

    يبدأ فيلليني سرده في هذا الجزء بصيغة المتكلم دون مقدمة أو توضيح من وسط مشهد يعيشه واصفا إحساسه حين اصطحابه لغرفة الأشعة التي يشبهها بأحد المعسكرات النازية أو قاعة مزج الصوت السينمائية، وبسرد يشبه أفلامه يتأمل من مكانه الأطباء والمحيطين به وحديثهم عنه عبر الزجاج.. كعادة هذه المسافة الساخرة لديه بين واقعه وواقع الآخرين مشبها نفسه بشيء شبه عار مجردا حتى ذاته لرؤية أوسع، يصف نظرات وسلوك وثرثرة من حوله بينما هو مسربل في أجهزة طبية بسرد سينمائي بصري دقيق؛ يرسم كل شيء بكادرات وزوايا وإضاءة تعكس الفكرة، يستدرجك من تأملاته الباطنية كهلوسة الحلم لتبدو مقدمة لفكرة فيلم يدخلك فيه ثم يعيدك لواقعه مذيبا الخطوط الفاصلة، يسترسل في نقطة ليعود منها لخيالاته المنسابة، دائم السخرية من حجمه الكوني ..حجمه بين الأحداث والأشياء؛ مضخما أحيانا لضئيل ومضئلا مما يبدو كبيرا أو مبالغا في حجمه "أما أنا فكنت مجرد نملة"، يعلن عن عزمه تنفيذ الفيلم كرغبة "دونكيشوتية"في وقت ظن نفسه يحتضر يصف فيه الأشياء بأنها لم تعد قابلة للتعريف البشري كالهاتف الذي كان "عنكبوتا ضخما غريب الشكل أو قفاز ملاكمة فصار مجرد هاتف"، يصف إحدى حالات تعاطيه عقارا طبيا للتجربة "بينما تتوقف أنت عن تلويث كل شيء بشخصيتك وكأنك أميبا يتحلى كل شيء بالبراءة ما إن تتركه وشأنه" مشيدا بهذه الحالة التي تفقد رمزية المعاني المنطق فتشعرك بالراحة لكونها غير مبررة ليسقطك البعد عن ذكرى التفكير بالمفاهيم في هوة من القلق، ويعود لوصف مشاهداته في المستشفى من باطن عقله؛ ممرضات..راهبات..أطباء..قس..زوار..مرضى؛ بسرد متدفق منساب متشعب بتركيز يبدو فيه شغف بالفن التشكيلي والأدب ويشي بذاكرة بصرية تشكيلية قوية كتشبيهه لتوافد زواره من الكومبارس بلوحة للرسام "هنري روسو" وتشبيهات أخرى..مستغرقا في تأمل ما يراه عينا أو ذكرى مستعرضا للشخصيات بزخم كبير بين حاضر وماض كأنماط كاريكاتيرية "كاسترجاع سلمي وفارغ للأفكار".


2

   هنا يعود فيلليني إلى مرحلة دراسته الثانوية حيث لم يكن قد فكر في العمل الذي قد يمارسه أو في مستقبله فالعمل يراه لا يمكن تفاديه ولا يتخيل أنه سيكبر، ثم يعترف أن ما أخرجه من أفلام الذكريات تروي ذكريات مختلقة ليضيف كما خريطة لتنفيذ أفلامه كيف كان يصنع الدمى طفلا برسمها على الكارتون ثم قصها حتى يضع في النهاية الرأس بالصلصال أو الصمغ" مضيفا "لم تثر اهتمامي أي من الألعاب سوى الدمى والألوان والتركيبات الكارتونية وتنفيذ رسوم لقصها ثم شدها بعضها ببعض، لم أركل بقدم كرة في حياتي"،" كان يعجبني أيضا البقاء في الحمام لساعات وساعات فأضع المساحيق على وجهي وأتنكر بشوارب وذقن من نسالة الكتان وروموش مصطنعة طويلة". ويشير لعلاقته القديمة بالسينما حيث كان مفتقرا للأموال من والديه فلم يتردد عليها في طفولته كثيرا بل كان يتعرض للضرب في القسم الشعبي لسينما "فولغور"حيث كانت تثير فيه مشاهد المغامرات والحروب الرغبة في تقليدها بشكل أكثر وحشية، أما أول ذكرياته عن الأفلام فتعود لفيلم "ماشيست في الجحيم"على ساقي والده واصفا بخيالاته الطفولية أجواءه المحيطة بالأفيونية متوقفا بالإشارة لسحره الخاص بملصقات الأفلام، لكنه عند انتقاله لروما صار يتردد على السينما بشكل أسبوعي تقريبا..تثيره الأفلام الكوميدية السابقة للأفلام كالسيرك، كما شاهد صغيرا الكثير من الأفلام الأمريكية يتمتع فيها الصحفيون بسحر خاص فانبهر بأسلوب عيشهم فقرر أن يصبح صحفيا مثلهم ليقفز هنا لعامي عمله بالصحافة 1938 و 1939 ليصف لقاءه مع المخرج الإيطالي "أوسفالدو فالينتي" حين تصويره مشهدا في موقع التصوير "فوضى مخيفة وخانقة، صوتا قويا معدنيا..أوامر كالأحكام القضائية".يقول عن نفسه وقتها أنه غير مؤهل لممارسة الإخراج لافتقاده صفات الحزم والجلد والدقة الشديدة والاستعداد لإرهاق نفسه وغير ذلك أوله السلطة فقد كان طفلا منغلقا ولا يزال" يعشق العزلة ويسهل الاعتداء عليه ومعرض للهجوم"، يرى أن إخراج فيلم لا يختلف في السيطرة على عمال الاستوديو عن سيطرة كريستوفر كولومبس على بحارته الراغبين في العودة، وينساب حديث فيلليني حتى المخرج الإيطالي "روسيليني" الذي يعتبره معلمه الحقيقي ويعجبه أسلوبه وسعد بتجربة العمل معه..فمن مراقبته له في فيلم "بايسا" اكتشف إمكانية عمل الأفلام برشاقة وحرية الرسم أو الكتابة.. أن تستمتع وتعاني معا دون الخوف من النتيجة النهائية كما "العلاقة السرية التي تمزج بين اللذة والقلق التي تربطنا بعصابنا" فهو يتكلم عن العصاب كأمر بديهي للجميع "..تعلم من روسيليني درسا هاما هو الحفاظ على التوازن وسط أكثر الظروف سوءا وتعقيدا ثم استغلال هذه المشاكل وتحويلها إلى شعور وقيم عاطفية ووجهة نظر، فروسيليني يعيش أجواء الفيلم كمغامرة رائعة يخوضها ويسردها؛ مختارا مكانا واضحا بين لا مبالاة الانفصال وحمق الارتباط وهو ما يجتمع في الواقعية الجديدة التي يرى روسيليني مرجعها الوحيد دون غيره ممن قدمها كمعادلة أو وصفة..يتلمس الواقع المعلق في حتمية صارمة ومأساوية دفينة مقدسة متخفية في الاعتيادية المؤلمة لما يبدو بسيطا معتادا كأن الألم يتغذى من "اللاوعي الشفاف لنظرة من يراقبه"، باختصار وكما رأى فيللليني فروسيليني كان له بمثابة رجل مرور ساعده على عبور الشارع.


 المنتج المستبد واستعادة السيطرة

  السينما تلوث الدم كالكوكايين

3

    يبدأ فيلليني بالحديث عن فلسفته في صنع الأفلام فيرى أنه يخرج الأفلام لعجزه عن القيام بشيء آخر فهو يتطلع لطاعة هذا التوجه الطبيعي؛ سرد القصص من خلال السينما ..قصص تناسب شخصيته في مزيج متداخل من الصراحة والابتكار والرغبة في إثارة الدهشة والاعتراف وتبرئة الذات والفوز بإعجاب الآخرين وإثارة الانتباه وتقديم العظات والقيام بدور الشاهد، المهرج مع الإضحاك وإثارة المشاعر؛ مسترسلا في الحديث عن ذكريات بعض تجاربه السينمائية ومواقف مع صناعها، متطرقا لعشقه لقصص المغامرات المصورة وكتابته السابقة لسيناريو "غوردون فلاش"، يروي كيف استرد دفة السيطرة من مدير إنتاج مستبد ليصرخ فيه أمام الجميع كثورة لكرامته مستعيدا السيطرة على فيلمه ليصبح منذ هذه اللحظة التي لم يكن يعرف فيها شيئا عن العدسات أو غيرها؛مخرجا مستبدا يتمتع بكل رذائل وفضائل المخرجين الحقيقيين التي كان يكرهها ويحسدهم عليها.. فإحكام السيطرة درس هام يلقنه فيلليني في سرده، يصف علاقة المخرج والمنتج بالدرامية دائما بتعاون ضئيل كمبارزة في حب الظهور العدواني ..فيراها علاقة كوميدية وخطرة مريضة بين مخرج مؤمن بأفكاره ومنتج وسيط بين المؤلف والجمهور يؤمن بذلك "بصرامة كهنة المعابد اليونانية الذين لا يسمحون بأية رقابة على حوارهم العنيف مع الآلهة" مستندين لفكرة مجردة عن مشاعر واحتياجات الجمهور منطلقين من واقع زائف ابتدعوه لا وجود له مع هوس ونزعة تآمرية وعند مضحك ساذج. فيرى ساخرا أن السينما صارت طقسا يستسلم له الجماهير مما يجعل صانع السينما الاستهلاكية قادر على تحديد الأجواء النفسية وأسلوب التفكير والطباع لشعوب بأكملها معرضة يوميا لفيضان من الصور يلقى على الشاشات، فالسينما تلوث الدم كما العمل في المناجم وهي كتجارة الكوكايين غير المدان والأكثر خطورة فهي مستترة وغير ملاحظة، كما يرى أن الدفاع عن الفيلم من المكائد الخفية التي يمثلها المنتج أمر مفيد للفيلم لكنه أيضا يجعل المخرج يرى فيلمه من وجهات نظر مختلفة غريبة تنظر إليه بشك وكراهية لذا فالمنتج لدى فيلليني حاجة تكميلية للفيلم غير حقيقية.




   امرأة في الشارع ترتدي فستانا..

4

   هنا يتساءل كيف تكون نشأة فكرة فيلم فكرة فيلم؟ وأي المسارات التي يجب المرور بها؟ بادئا بفيلمه " الطريق" وقد مر عليه 25 عاما ثم متذكرا نشأة فكرة فيلمه "الحياة حلوة" لدى رؤيته امرأة تسير صباحا في الشارع مرتدية فستانا يجعلها أشبه بنبتة بينما لا يعرف حقيقة العلاقة بين الأمرين، فهو لا يعرف سببا لإخراج فيلم دون غيره فأسبابه غامضة مشوشة أوضحها عدم الرغبة في رد المقدم المالي عند التوقيع، ليتوقف مع فيلمه "الطريق" ونشأته من فكرة ألحت عليه وشعور غامض فنشأت القصة بسهولة ثم الشخصيات تلقائيا وكأن الفيلم كان معدا لا ينقصه سوى العثور عليه، هنا يتطرق لذكر "جولييتا" التي رغب منذ زمن في كتابة فيلم لها فهو يراها ممثلة قديرة وفريدة في التعبير الفوري عن الدهشة والفزع والسعادة والحزن الكوميدي للمهرجين فهي ممثلة مهرجة وهو تعبير نبيل ليس كما يظن به.

5


   يحاول هنا أن يجيب عن سبب رسمه شخصيات أفلامه وتسجيل ملاحظات تصويرية للوجوه وكل شيء، ليجيب بأنه يفعل ذلك للتدقيق واكتشاف أي نوع من الأفلام فيلمه وكوسيلة للارتباط بالفيلم، فكل فيلم له طابعه ومزاجه وطريقته في تكوين علاقة معك، بعض الأفلام خجولة وأخرى تفاجئك فتتصرف بمرح أصدقاء متنكرين ولأخرى نزعات غير لائقة بحيوية عنيفة معدية وأخرى تتخذ معك شكل الصراع الخطير المرهق وتلك التي تتملكك .

6

   هنا يصحبنا في صياغته الفكرية لأحد أفلامه؛ أفكاره وشخصياته..يصف تولدها معنا على الهواء فيراها تركيبة لا يعرف سببها، لكنه يصر أن تسود الفيلم أجواء المرح والبهجة والفكاهة وأن يكون تشكيليا براقا مضيئا..كان يتحدث عن فيلمه المقترح آنذاك "8 ونصف".



                                    فيلليني الطفل وفراشه المتفجر بالأحلام

7

   يتحدث هنا عن علاقة الطفل بالواقع وعن دهشته النابعة من المجهول عائدا لذكريات طفولته وإطلاقه أسماء سينمات على زوايا فراشه فالتوجه لفراشه كان عيدا شغوفا بعرضه والمنظر المتفجر بالأحلام البراقة، ثم يأخذنا لتطور خياله الواعي في كبره متجها نحو المحظورات والخوارق ولقاء النساك والسحرة والمشعوذين متطرقا لدراسات العالم النفسي كارل يونج معجبا به ويرى أنه "لا يمكن تصوير فيلم عن الأحلام بشكل مجرد بعيدا عن شخصية الحالم" وصولا لفيلمه "جولييتا والأشباح" أول أفلامه الملونة مشيرا لقدرة اللون السردية في التعبيرمنسابا للحديث عن علاقته بجولييتا وقضية المرأة.

السينما والأدب ..المجد للفيلم الصامت

8

   هنا ينطلق من فكرة " السينما والأدب " كتزاوج يقوم عادة على جدل رائيا أن كل عمل فني يعيش في بعده الذي نشأ فيه وبالتالي فإن إبعاده عن لغته الأصلية ونقله هو نفيه ومحوه، أما لجوء السينما لنص أدبي فيرى نتيجته في أفضل حالاتها ليست سوى مجرد نقل تصويري يشترك مع الأصل في الجوانب المعلوماتية فقط، فتعبير السينما تشكيلي بالصور كما الأحلام ويرى أن الكلمة في الفيلم تتمثل في الحوار كوظيفة إعلامية تمكن من متابعة الأحداث بشكل عقلاني بمقاييس الواقع المعتاد فيحمل الصور بمراجع هذا الواقع منتزعا عنها ولو جزئيا الطابع غير الواقعي لصور الأحلام ولغتها التعبيرية مما يرى بسببه تميز الأفلام الصامتة بجمال غامض وجاذبية إيحائية شديدة القوة تفوق الفيلم الناطق لكونها "أكثر تشابها مع صور الأحلام الأكثر واقعية من كل ما نرى ونلمس"، متسائلا عن إمكانية محو ألفي عام من التاريخ الإنساني من الوعي والعودة لتصرفات الأسلاف دون أحكام أو تقييم أخلاقي.


تجربته مع التليفزيون ..

9

   هنا يتحدث عن عالم السيرك في أفلامه كثيمة متكررة توجب تخصيص عمل له في حين يرى العيش مع فريق تنفيذ فيلم بحد ذاته كحياة السيرك، ليتنبه إثر مقابلة تليفزيونية للتليفزيون وعالمه الأكثر حميمية مع الجمهور، مفكرا في تقديم عمل غير مصبوغ بأحاسيسه والنظر للأشياء كما هي متفاديا جعل غير المرئي مرئيا، إلا أن هذه النوايا فشلت فمحاولة الفنان لبرمجة نفسه من الخارج خطأ جسيم "التوثيق الوحيد الذي يمكن تقديمه هو التوثيق عن الذات، الشخص الواقعي الحقيقي هو الحالم خصب الخيال".

10

   يتحدث عن تجربته التليفزيونية التي يراها خطأ ومخيبة للآمال ورديئة فالتليفزيون يحد من إمكانيات العمل السينمائي مع كونه غائم الأهداف والدلالات يعوزه التجريب والبحث إضافة لكون التليفزيون يفتقد الطابع المقدس في عروض المسرح والسينما.


روما .. مدينته وفيلمه ..

11

    هنا يتحدث عن روما فيصفها بطريقته المعتادة؛ شخصياتها وأرضها الأرستقراطية الريفية وسحرها القديم كأم مثالية غير مبالية لكثرة عدد أبنائها ترحب بك متى أتيت وتودعك متى أردت مشبها الارتباط العائلي فيها بالحياة في عش مع تميز أهلها بالاهتمام بالغذاء والجنس..يقول عن ساكنها "جاهل لا يريد أن يزعجه أحد وهو ما يراه النتاج الأدق للكنيسة"؛ "طفل ضخم يمنحه الكثير من الرضا أن يستمر البابا في ضربه على مؤخرته"..وهكذا فحتى روما التي أحبها وقدم عنها فيلما لم تفلت من سخريته.

12

   يتحدث عن فيلمه "روما" باسم مدينته كرغبة في إفراغ شيء ما..كمحاولة عصابية لإنهاء علاقته بالمدينة والتخلص من ابتزاز الذكريات كرغبة تصفية دائمة تطرق منها للحديث عن السياسة.



الفيلم .. مراحله وعناصره

13

   يتعجب ممن يريد معرفة الفيلم الذي ينوي تنفيذه ويرى وجوب تفادي الحديث عن الأفلام تماما حيث الفيلم بطبيعته لا يشرح بالكلمات كما أن الحديث عنه يزج بنا في سلسلة من الفرضيات المقيدة التي تحبس الفيلم في صور وتركيبات وصفات ضيقة محدودة حتى يوصلك لخطر عدم التعرف على فيلمك وصولا لخطر نسيانه. ثم يستدعي جزءا من دراسة أعجبته لنيومان عن المبدع وأنه من يختار موقعا ما بين القواعد المريحة للثقافة الواعية واللاوعي للقيام بعملية تحويل كرمز للحياة مراهنا بحياته وبسلامة قواه العقلية. يعترف بحبه للمبالغة وأنه قد ينقل أفكاره بشكل يجعلها درامية بشكل مبالغ برومانسية تبعدها عن التحليل الواعي، مضيفا أنه غير قادر كغيره على الانفصال الناقد بتصوير فيلم ثم فك شفرته على الفور فيحسدهم على ذلك مضيفا أنه تربطه بالسينما علاقة غير شرعية نفسيا قائمة على عدم ثقة متبادلة فهو يصنع أفلامه وهو في حالة هروب كمرض عليه تحمله حتى نهايته ليسعى بعده لمرض جديد يدفعه للرغبة في التحرر والشفاء من جديد كما الأحلام تعبير عن مرض لصحة أفضل. أما عن ماهية الفيلم فيراه شك وسرد محتمل وظلال فكرة ومشاعر شاحبة لكنه يبدو متكاملا حيويا نقيا، ثم تبدأ الرقصة في عالم السينما؛ الميزانية،الإيجار،أماكن التصوير..لتبدأ مرحلة السيناريو فيخبرنا كمخبر سري أن السيناريو "نص يجب كتابته يتميز بإيقاع أدبي يختلف تماما عن الإيقاع السينمائي ولا يمكن أن يقارن به"، له جاذبيته لكنه يحيط الفيلم بالضباب ويحاول كبح جماحه لكنه يرفض ثم تأتي مرحلة اختيار الوجوه وهي الأمتع لفيلليني وهي ما تمنح الحياة للفيلم ومعها يتحول لشيء مختلف وهو هنا لا يبحث عن خبرات أو مهارات بل عن وجوه معبرة مميزة تكشف عن نفسها بالكامل بمجرد ظهورها على الشاشة، أما الماكياج والملابس فيوضحان نفسية الشخصية، إذا تخيل في وجه معان لا يملكها الممثل غير الشخصية فيجب أن يكون نفسه فكل الوجوه صحيحة حيث الحياة لا تخطىء فلا جدوى للصرامة بل من بين الكومبارس قد يظهر بطل الفيلم، ويتحدث عن متابعة الديكور وعماله حيث يفقد كل شيء قوته الإيحائية وعن اصطدامه مع الإنتاج لما يتعلق به هو لا الفيلم، ويأتي يوم التصوير كيوم مخيف ومحرر كثمالة الانتحار ليصبح الفيلم صديقا تدريجيا يخرجك لا تخرجه، أما المونتاج فغرفة جراحية لها خصوصيتها فلا يقبل فيها أحد هنا يبدأ الابتعاد عن الفيلم وفقد متعة النظر في وجهه ليصبح الفيلم بانتهائه شيئا لا يرتبط به، وتأتي مرحلة تأليف وتسجيل الموسيقى والتي يراها عيدا له ولشغفه وفي صالة العرض يرى فيلمه كصديق لا يود رؤيته وهو يقوم بما لا يوافقه عليه، مضيفا أن اعتبار أفلامه سيرة ذاتية هو حكم لا مبال وتصنيف متسرع فكل شيء مبتكر حتى الواقع.. فقط هناك متعة السرد..مؤكدا أن لا ظروف مثالية لصناعة الفيلم بل هي دائما مثالية فغير المتوقع ليس فقط جزءا من الرحلة بل هو الرحلة ذاتها فصنع الفيلم لا يعني التشبث بتكييف الواقع على الأفكار المسبقة بل استغلال ما يطرأ عليها من تغيرات.



جنون الإعلام وتدخل النقد ..

14

    يتحدث عن النظام الإعلامي الذي صار ذروة في الجنون بإجراء الحوار مع الجميع على أي شيء في كل وقت كطقس غير جدير بالثقة بإغراق إخباري ومعلوماتي يصعب استيعابه؛ تدفق وضجيج غبي مستمر كمزيج مصطنع يخفي الواقع الذي ينقله فيبعدنا عنه مما يقضي تماما على محاولة تغييره كطمس معتم مما يلزم بعدا عن كل ذلك للاهتمام بنفسك وجمعها، هذا ما قاله في حوار ما ليسأل بعدها عن النقاد ورأيه في علاقة الفنان السينمائي بعالم النقد، فيرى أن علاقته بالنقد دائما متناقضة من قرب وابتعاد وأن أفلامه شهادة على شخصه لذا فهو يرى عمل الناقد غير لائق كاعتقاد بالحق في الحكم عليه كإنسان وتصنيفه وتقييمه لذا فالنقد تدخل سافر وفضول محرج ومزعج وإن كان مرضيا للزهو والقلق مبدئيا، لكنه في المقابل يشعر بلطف الناقد الذي يتحدث عن فيلم بلا مبالغة كأنه كائن حي تاركا مجالا للمشاعر الشخصية لا ببرودة التحليل وعجرفته ولا مبالاة المهندسين الجافة أو بتهديد وابتزاز رجل شرطة ويرى مورافيا نقيض نموذجه المفضل فالفيلم لديه ذريعة تحليل أيديولوجي واجتماعي متعجل، مشيرا إلى أن الكم الكبير جدا التراكمي لمشاهدات الناقد الفيلمية تدعو لتحليل الناقد باعتباره كائن جديد ويتساءل كيف يحافظ الناقد على متعة الذهاب إلى السينما ؟ لينتقل بعد ذلك للحديث عن فيلمه "كازانوفا". 


( قراءة في  فصل "صناعة السينما" من كتاب "كيف تصنع فيلما" للمخرج الإيطالي فيديريكو فيلليني وقد تم نشرها بمجلة الفيلم ) 




  • 2

   نشر في 20 مارس 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

creator writer منذ 6 سنة
ماشاء الله جهدك واضح في المقال .
0
أمل ممدوح
أشكرك جدا وسعدت بقراءتك

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا