من منا لا يخشي الظلام .. ؟! أغلبنا مازال يخاف الظلام إلي الآن ولكن كيف سيكون الوضع إن أُجبرت عليه "وحيدا" لمدة لا تقل عن ثمانية أسابيع هل سينتهي الحال بأن تقول ( أنا هطير ... أنا هشوف الناس ... هشوف النور ... أنا هطير) تلك الكلمات التي سبق ذكرها علي لسان الشخصية المتخيلة داخل عرض الفنار أم سينتهي بك الأمر بأن تبقي داخل عالمك الموحش ويبدأ العد التنازلي لنهايتك ، عرض الفنار هو دراماتورجيه نصية لنص الظلمه للمؤلف الايرلندي جلاواي رؤية وإعادة كتابة للدراماتورج محمد محروس قدمه المخرج ماهر محمود وأداء كلا من الفنان أحمد عثمان والفنان محمد درويش علي مسرح الطليعة بقاعة صلاح عبد الصبور ضمن فاعليات المهرجان القومي .
بدأ العرض بدخول عامل الفنار مرتديا السواد حاملا مصباحه من صالة الجمهور إلي خشبة المسرح في جو ملئ بالسكون المسبب للرهبة في بادئ الأمر وقد قام بدوره "أحمد عثمان"، إلي أن نسمع صوت لشاب آخر وهو زميله يغني عن الأمل و النور وهو الشخصية الضد للبطل وقام بدورها " محمد درويش" فهو الشاب القادر علي الغناء بصوت عذب يعزف على قيتارته أما هو فكم تمني أن تكون له فرقته الخاصة ليجوب بها البلاد .. ايضا هو القادر علي الصعود في الظلام أما هو فيرهبه يذكره بأبيه الذي عادة ما يكون البطل الأول لابناؤه إلا اننا نكتشف انه المتسبب في إطفاء روحه وبريقه ظنا من أنه بهذه التربية سوف يقوم بإنشاء رجل حقيقي ولكنه لم ينشأ سوي خلل بداخل ابنه تسبب في إصابته بالشيزوفرينا -الفصام- بالإضافة لهلوسات سمعية وبصرية وتعرف الشيزوفرينا بانها "اضطراب حاد في الدماغ يشوه طريقة الشخص المصاب به في التفكير، التصرف، التعبير عن مشاعره، النظر الى الواقع ورؤية الوقائع والعلاقات المتبادلة بينه وبين المحيطين به" وهذا ما اتقنه الفنان أحمد عثمان محاولا ان يوصله الي المتلقي بتجسيده الشخصية المريضة بكل آلامها و تحولاتها وصراعاته الداخلية من ندرة المؤن بالإضافة إلي حرمانه من تكوين علاقة جنسية و تجلي ذلك في لحظات انفعاله مع زميله في حوارهما المتسم بالإنفعال و التحيز و حينما يدرك انه سيخسر رفيقه الوحيد يتأسف له ويرجوه ان يبقي معه فليس له سواه كما أنهم في عزلة داخل البحر بينهم وبين أقرب جزيرة حوالي خمسون كيلومتراً ، تذكرني حالة العزلة و الإنفصال المحيطة بالعرض بنصوص لكاتب إيرلندي آخر وهو "صاموئيل بيكيت" تلك الروح الإنهزامية المحطمة المنتظرة للخلاص التي لا تقدم علي فعل و إن كان الفعل الحقيقي الذي تم في العرض تم عن طريق الشخصية المتخيلة بانتحاره بالقفز من أعلي الفنار وبذلك يكون الفنان محمد درويش قد اتقن تعبيره عن السخط الذي يعيشون فيه دون خوف علي عكس البطل الذي لم يقدر حتي نهاية العرض علي إتخاذ أي قرار، كذلك تيمة صراع عامل فوق سطح المياة ذكرتني بكتابات الكاتب المسرحي الأمريكي "أوجين أونيل" في سلسلة مسرحياته عن البحر وإن كان لعرض الفنار هنا خطوط درامية آخري.
وعن طريق السرد نصل إلي أحد أهم اسباب عقده النفسية وهو تعلقه الزائد بوالدته وقد اسماه عالم النفس سيجموند فرويد بانه "عقدة أديب" فقد تسببت والدته بدلالها الزائد ورغبتها الكامنة داخلها بإنجاب فتاة في إكمال هذا الخلل فكانت تطيل شعره وتضع به التوك و تقوم بتعليمه "التريكوه" وهو الأمر الذي استشاط والده غضبا عندما كان العامل مجرد صبي لا يتجاوز التسع أعوام فقام بحلق رأسه وأخذ في تعنيف والدته إلي أن قتلها امامه فكان من الطبيعي أن تأتي الشخصية مشوهة الروح ومحطمة العقل ، وبالوصول إلي الربع الآخير من العرض يكتشف الجمهور عن طريق الشفرات المعطاه أن الزميل الآخر وهو الشخصية الضد ما هو إلا البطل نفسه ولكنه يتخيله بسببه مرضه المصنف بالشيزوفرينيا وكان من ابرز العلامات المسرحية التي أكدت ذلك قبل الحديث هي الصورة المعلقة في عمق الفضاء داخل المسرح وكانت تجمع الشخصيتين معا إلي أنه أثناء الصراع نجدها تحتوي علي شخص واحد فقط و علي مستوي الحوار فظهر ذلك عند مرض الآخر بالتسمم رغم كونه لم يتناول المكسرات وإنما قام بإلقائها بعيدا .
وبالحديث عن السينوغرافيا ديكور يحيي صوبيح وإضاءة نائل عبد المنعم ومكياج اسلام عباس فأعتمد الفضاء المسرحي علي مكان ثابت طول العرض وهو الغرفة ذات موقد الغاز وخزان المياة بالإعتماد قدر الإمكان علي تصغير حجم الغرفة وجعلها تتسم بالرثة والصغر ليظهر الإهمال الذي يتعرض له عامل الفنار ، ووفق توظيف الإضاءة بجعلها تارة إضاءة وتارة إنارة تنير الغرفة مما ينقل الحالة العامة وكان المسرح في حالة إظلام و إنارة طوال العرض، وجاء عامل الفنار بمكياج يؤكد العجز و الضعف من هالات سوداء اسفل عينه أوتجعيدات تحيط بوجهه والآخر بوجه ذو بشرة حيوية ، فإن كان العرض يعتمد علي ممثلين فقط إلا انه كان من أهم أسباب نجاح العرض جماهريا وكانت ملابسهم موفقة وهي بدلة العمال المعروفة "سلوبيت أزرق" به شحم مما يؤكد عملهم به لفترة طويلة داخل الفنار .
وبذكر المؤثرات الصوتية فاعتمد العرض علي اللجوء إلي الإغاني بمقطوعات علي لسان الفنان محمد درويش من إجل كشف الحقيقة بالرغبة في بث الأمل و إشعال الأضواء داخل النفوس بدلا من تكميمها وإطفائها ، هذا بالإضافة إلي صوت البحر وأمواجه وأصوات السفن التي استمرت طوال العرض وجعلت المتلقين بإختلاف فئاتهم العمرية يسترجعون شكل البحر ورائحه يوده من ذاكرتهم مما اثار متعة خاصة لهم مما جعل لها دور إجابي في العرض وإن كانت المفاجأة في نهاية العرض وجود صوت يخبر الجميع انه مريض بالشيزوفرينا فالإكتفاء بالإشارات والرموز والعلامات كان سيكون كافي ولكن ذلك قد تسبب في شعور بعض المتلقين بعدم ثقة اصحاب العرض في ذكائهم .
عمل أصحاب عرض الفنار علي إظهار رؤية جديدة للنص الظلمة المكون من مشاهد منفصلة لصراعات بين أكثر من عامل داخل البحر إلي أن يجعلوا شخصية واحدة تعاني من العزلة عن طريق المشاكل العائلة و العاطفية المسببة لصراعات ومشاكل الإنسان بالغوص في همومه بشكل هرموني سلس دون أن يفقدوا الجمهور التركيز أو الحماس مطلقا طوال العرض وهو ما يحسب لمخرج العرض ماهر محمود بشكل كبير .
-
Doha Elwardaneyناقدة سينمائية وباحثة