يضرب المرء أخماسًا لأسداس للتحولات التي تستحوذ على البعض فتصيبه في مقتل، وحتى لا يظن القارئ أن اليأس قد تسرَّب إلى نفوسنا؛ فإنني أردد مع أنطون تشيكوف قوله: "إنني لا أكتب عن الأشياء المحزنة لكي تبكوا عليها؛ وإنما لتغيِّروها".
إن المصلحة القاصرة التي تدفع المرء لمداهنة الباب العالي، هي نفسها التي ستُجهِز عليه عندما يحاكمه التاريخ. ربما يجتني الفرد منصبًا أو جاهًا إزاء التطبيل للسلطة، لكن بما ينفعه منصبه أو جاهه وقد خسر نفسه التي بين جنبيه؟! مغبونٌ من يتصور أن نفاق السلطة سبيل لاكتساب احترام الناس؛ فهي لا تزيد عن "كعب أخيل" الذي يقضي على هؤلاء دونما هوادة.
إن كان الجنرال الأمريكي، بنديكت أرنولد، قد حارب في صف البريطانيين ضد أمريكا خلال الحرب الثورية؛ فقد رأينا اليوم من يُطِل من بيننا، ويستميت في تنفيذ مخططات معادية لبني جلدته!! ألم يبلغه أن الأمريكيين قد نعتوا بنديكت بالخائن الحقير؟! أم أنه لم يقرأ تاريخ أبي رغال ليتجنب أن يكون خليفته في العالم العربي اليوم؟! ندرك تمامًا أننا لسنا في رحاب مدينة أفلاطون الفاضلة، ولكن هذا لا يعفينا من أن نصدع بالحق أو على الأقل نلزم الصمت، لأننا شئنا أم أبينا سنقف على مسرح التاريخ بعد أن نتجرد من سلطتنا، والتاريخ لا يرحم. في طوق السلطة أن تحتفظ بأبواقها فترة إلا أنها لا تدوم للأبد؛ فلقد قبض شاوشيسكو على رومانيا بقبضةٍ من حديد، ودانت له البلاد ثنتين وأربعين خريفًا، ثم حوكم أمام شعبه في أسرع محاكمة عرفها العالم، واقتاده الشعب لمصيره المحتوم.
سقطت إمبراطورية نابليون بونابرت في "ووترلو"، واليوم سقط كثير من الرموز العربية التي لم تصمت عن الحق وفقط؛ بل وصفقت بحرارةٍ للباطل. وإن طاردت "ووتر جيت" ريتشارد نيكسون وأجبرته على الاستقالة؛ فإن الحصار الغاشم على دولة قطر سيظل أبد الدهر وصمة عار في جبين الكثيرين. يمتلك المسرح رهبةً لا تتوافر للسينما؛ فهو يعتمد على الحضور القوي والمكاشفة الصريحة، ويكون الواقفون على خشبة المسرح أكثر التصاقًا بالجماهير؛ فلا مجال لخديعة الجمهور. ونفس الأمر ينطبق على مسرح التاريخ حيث تسقط الأقنعة وتقف الشخصية تتفحصها العقول قبل الأعين، ويدرك الناس من جاد بنفسه لأجل قضية ممن بكى بكاء التماسيح ليقتنص مركزًا أو يستقطب وجاهة.
ولعلَّ ما يجدر ذكره هنا ما دار بعد نكبة 4 فبراير 1942 حيث رفع الوفديون، مايلز لامبسون، على الأعناق وهتفوا بحياته بعدما اقتادهم للحكم! وخرج النحاس باشا على الشعب مبررًا هذه السقطة التاريخية زاعمًا أنه قد أنقذ البلاد من الفتنة؛ إلا أن هذه المزاعم الساذجة لم يقبلها الشعب، وطبع مكرم عبيد "الكتاب الأسود" الذي وثق فيه الصفقات التي عقدها الوفد مع الإنجليز واحتال الوفديون بها ليمسكوا بزمام الوزارة. وفي خطوة تالية اجتمع النحاس بممثلي الأحزاب قبل إجراء انتخابات مجلس النواب، وأملى عليهم شروطه لقبول دخولهم المجلس ومن بينها؛ عدم تناول حادث 4 فبراير مطلقًا، وعدم مهاجمة الإنجليز، فضلًا عن مهاجمة السيدة حرمه؛ فانفجر أحمد باشا عبد الغفار قائلًا: وماذا نقول لمرشح الوفد بعد ذلك؟! نقول له "وشي أحلى من وشك" أم نقول له "أبويا أحسن من أبوك"؟!
إن سياسة "أنا ومن بعدي الطوفان" هي التي أفسدت حالنا، هذه السياسة التي دفعت الملك الصالح إسماعيل للتحالف مع الصليبيين، وتسليمهم بعضًا من حصونه؛ ليتقوى بهم على قتال ابن أخيه الصالح أيوب. والسؤال: متى يفيق النائمون؟! ومتى ينتبه هؤلاء إلى أنهم أطلقوا سهمهم نحو صدرهم، وأضرموا النيران في بيوت أهليهم؟!