بين الخيال و الواقع و بين التعقل و الجنون هنالك خيط رفيع جدا..
ما سأسرده الآن سيكشف مدى ضعف هذا الخيط الدقيق..
على مدى بصرك ستراه، كان جالسا لوحده..
لو كانت الأفكار تتجلى للعين لما رأيته لوحده..بل معه ثلاثة آخرون لهم مظهر غريب..
إنه منتصف الليل و نحن في فصل الصيف..كان ذلك الشخص جالسا القرفصاء على صخرة كبيرة بجانب الوادي يمسك بشيئ..
كانت ليلة مقمرة نورها ينعكس فوق سطح الماء في لوحة ملائكية زادها صوت خرير المياه و نقيق الضفادع جمالا كأوركسترا وليدة الطبيعة..و نسمات هواء باردة تنعش الروح..
لكن الغريب هو ذلك الشخص..ما الذي يقوم به في هذا المكان و في هذا الوقت المتأخر..لنقترب منه أكثر فأكثر..
لقد تحرك من مكانه و هو يلوح بعصا طويلة و كأنه يصارع مخلوقات غير مرئية..
انتظروا للحظة يبدو أنه يحمل ما يشبه صنارة..إنه يصطاد.. على الأرجح أنه اصطاد شيئا..
و لكنه تأخر بعض الشيئ في إخراجه..ربما علقت الصنارة بصخرة، أو بشيئ كبير..
أخد يسحب و ذلك الشيئ داخل الماء يسحب في معركة الصبر و القوة..
قام بعدها بلف خيط الصنارة على يده اليمنى ليتحكم جيدا..و بقي على تلك الحال
لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ..لقد انزلقت قدمه و سقط متدحرجا على الصخرة ليقع في مياه الوادي..
كانت المياه باردة و لكن هذا ليس المشكل الوحيد..فذلك الشيئ العالق في الصنارة بدأ يغوص عميقا ساحبا الخيط و معه الصياد من يده للعمق..كأنه عالق بمرساة حديدية و سيعدم على طريقة القراصنة..
إنها عميقة حقا..كلما اقترب من القاع تزداد الظلمة و البرودة..
كانت لحظات قليلة حتى دغدغ شيئ ما قدميه في غياب تام للرؤية..لا بد و أنها النباتات التي تنمو في القاع..
عندها وصل الأدرينالين في دمه للذروة..و دخل في تلك الحالة حيث يعمل دماغك بأقصى ما لديه..و تلاطم الأفكار يكاد يخرق الجمجمة..
عزيزي القارئ هل تتذكر ما سبق و ذكرته عن ما إذا كانت الأفكار تتجلى ؟
نعم هنالك فوق الصخرة ظهر الأشخاص الثلاثة من العدم..
الأول كان عجوزا تظهر على محياه علامات الوقار..
و الثاني كان شابا عينيه متسعتين بهما لمعة خبث و يبتسم ابتسامة فاترة..
أما الثالث فكان متشحا بالسواد لم أستطع سبر أغواره..غير أن النظر فيه مطولا يشعرك بعدم الراحة و شعور منفر..
لقد كان هؤلاء الثلاثة نتاج الصياد الشاب..خلقهم خياله في فترات مختلفة من حياته الأمدية..و لكن تعدوا كونهم مجرد خيالات..بل أصبحوا واقعيين بالنسبة له أكثر من الواقع نفسه..و على يدهم سطرت حياته الأمدية..
ليبدأ صراع العقل في أولى جولاته حيث تقدم أحدهم فجأة و اختفى في الماء..لقد كان العجوز..
في نفس اللحظة كان الشاب يصارع الموت في القاع..و في عقله تدور فكرة واحدة و هي لن أترك الحبل أبدا..فهذه الصنارة أكثر من مجرد آداة بالنسبة لي ..بل كانت هدية من شخص عزيز على قلبي رحل لدار البقاء و لن أفرط فيها و لو اضطريت إلى لحاقه لتلك الدار..
في نفس اللحظة دب الصوت في عقل الشاب..لقد كان صوت العجوز :
- ارخ الخيط من يدك، فلتتركه و اصعد.. الأمر لا يستحق فحياتك ستكون الثمن..فأنت الآن في ملعب خصمك -الماء- و حتما سيفوز عليك..
فرد الشاب :
- لا يهمني الفوز أو الخسارة من أساسه بل الأمر هو أني لن أفرط في صنارتي ..كيف و هي ذكرى غالية..
فرد العجوز :
- أعرف أن الأمر ليشق عليك و لكن من أهداك الصنارة ..إن كان بيننا هل كان ليرضى بما أنت مقدم عليه الآن..تراجع الآن و لا تهوّن من قيمة الروح و الحياة..
عندها بدأ الشاب بالاقتناع و هو يهم بفك الخيط عن يده وقعت مشكلة.. لقد جر ذلك الشيئ الذي نجهل ماهيته الخيط مجددا و سحب الشاب.. لكن ليس كل في مرة تسلم الجرة ..فقد اصطدم رأس الشاب هذه المرة بصخرة ما في القاع و تدفق بعض الدم..لكنها لم تفقده وعيه..بل كانت الفتيل الذي أشعل نار الغضب و أثنى الشاب عن الصعود مجددا..
في نفس اللحظة عاد العجوز لمكانه و دخل ذلك المتوشح بالسواد و اختفى في الماء..
عندها تكلم في عقل الشاب بصوت كأنه آت من الجحيم لو صح التعبير :
- أ هذا الكائن الفاني فعل فيك كل هذا و أنت أسمى منه..هل سيردعك الماء عنه حقا ؟..إن كان من الموت بد فلا بد أن تأخذه معك على ما فعله بك.. مزقه إلى أشلاء و اشرب من دمه.. الدم بالدم.
هذه المرة لم يرد الشاب كما فعل مع العجوز..فقد كانت نار الغضب تغطي على حواسه و قام الأسود بتغذيتها جيدا..
في السطح حاول العجوز التدخل و لكن كان مجمدا في مكانه كأنه مكبل..
لحظتها بدأ الشاب يلف الخيط حول معصمه أكثر فأكثر في حالة من الجنون المؤقت..
لم يبق بينه و بين ذلك الشيئ إلا سنتيمترات قليلة لدرجة لمسه لجزء من الثانية.. و كان هذا كافيا ليعرف الصياد الشاب أنها سمكة شبوط عجوز..إنها وحش الوادي بامتياز بطول يقارب المتر و الذي يزور منام الصيادين و يؤرقهم..
لقد سمع قصصا كثيرة عن هذا الوحش الذي يوجد فقط في الأعماق و لا يخرج للأكل سوى بالليل.. و لم يضن لوهلة أنه سيصادفه بل و في عقر داره في قاع الوادي..
لقد لمسه مرة .. و لكن اللمسة الثانية غرز الشاب أصابعه في جسد السمكة و أحس بحرارة الدماء وسط الماء البارد..فاختلطت دماء السمكة بدماء الصياد مع المياه..
كانت لحظات قليلة حتى توقفت السمكة عن المقاومة و الحركة..
لقد أحس بشعور مختلط من فرحة الانتصار و نشوة الانتقام ..و قد تحقق للأسود ما يريد و خرج العجوز خاسرا هذه المرة..
في السطح كان الهدوء سيد الموقف و الليل يخفي ما يجري من عجائب و ما خفي كان أعظم.. رجع الأسود لمكانه و جاء دور الشاب ذو الابتسامة الخبيثة..ليختفي بدوره وسط الماء..
الآن سمع الشاب ضحكة ليست بالغريبة عنه و معها صوت يقول له ساخرا :
- كنت على وشك الموت في هذا القاع ..و على يد من ؟ على يد سمكة و صنارة غبية .. حتى لو مت كان سرد قصتك هذه سيثير الضحك..
بعدها ابتسم الشاب ..و جذف برجليه صعودا نحو السطح و هو يجر السمكة..
لقد نفذ منه الهواء قبل الوصول بقليل و تسلل بعض الماء لرئتيه..و بدأ يسعل بقوة..
و قواه قد خارت..فاستجمع ما بقي منها و أمسك بطرف الصخرة و سحب نفسه للخارج بصعوبة ..
انبطح و قد أغمي عليه بشدة التعب..
أولائك الثلاثة اختفوا مجددا ..ربما كانوا مجرد تهيؤات و خيالات..أو ربما كانوا من ساكني الوادي..لا أحد يدري..
مرت تلك الليلة و لا بد لها من من الانجلاء مهما طالت.. و أشرقت الشمس من جديد و التي كانت كافية ليستيقظ الصياد الشاب من نومه أو إغماءه..
لقد فتح عينيه بصعوبة و كان يشعر بعطش و ألم في كل شبر من جسمه..
كانت الرؤية ضبابية بالنسبة له فرأى تلك الحسناء بعينيها اللتان يميل لونهما للَون نباتات الوادي و ابتسامتها الصافية و كانت تقول له :
- هل أنت بخير ؟ لا تقلق سأساعدك..
فساعدته على النهوض حيث اتكأ عليها..و لكن كانت بنيتها قوية بعض الشيئ..
فعندما اتضحت الرؤية جيدا لم يكن فتاة بل رجل من سكان المنطقة بشاربه الكث ..فكانت رؤيته كافية لتنتبه كل حواسه فجأة و يقفز من مكانه..
قال له الرجل :
- ما بك مرعوب هل رأيت عفريتا ؟
- لا ضننت أنك شخص آخر..
- هذه سمكة كبيرة التي بجانبك هل اصطدتها ؟
- نعم
- سأحملها ..هيا بنا
فذهبوا في سبيلهم و تركوا المكان..
مر أسبوع بالتمام على الحادثة .. كان الصياد الشاب جالسا يحتسي قهوته المسائية ..فجاء صديقه و قال :
- أهلا كيف الحال ؟
- الحمد لله.. و أنت بخير ؟
- بخير.. ما بك هل سقطت على رأسك ؟
- إنها قصة طويلة و لن تصدقها..
- احكي لي أرجوك
فحكى له القصة بالتفصيل الممل..و قال الصديق له :
- لا مستحيل !
- لك حرية التصديق.
- أين هي السمكة الذهبية إذن ؟
- لقد تركتها لذلك الرجل الذي ساعدني ..
- لم أصدقك..
- أ تعرف لقد كشفتني ..إنها قصة من وحي خيالي المريض..
- نعم فأنا أشم رائحة الكذب..
- ذكي..هيا بنا لنتناول شيئا على حسابك..
- طبعا هيا بنا..
تمت
-
عبد الكريم واكنيممهتم بعلوم الأحياء، مهتم بالأدب و الفلسفة و لا زلت كاتبا فاشلا ❤