هشام سراي يكتب : الإنسان و الحمار ... قصة النكران
هشام سراي
نشر في 28 مارس 2016 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
" إن أبشع صور الظلم هي تلك التي يتصدرها الإنسان وهو يصب جام غضبه على حمار قضى عمرا في خدمته و التذليل صعاب الحياة له و حمل أثقاله في صمت وقور و قلب جسور ، و إن الحياة لا تبدوا حزينة كئيبة و قد عاث فيها البشر حقدا وغيلا فلا سلم الحجر و لا الشجر و لا البشر وأضحت الأرض بفعلهم غثاءا وحطب ...
ومن أبلغ صور نكران الجميل البشر و تعاليهم هي تشبيه كل بشاعة وغباء و انحطاط بالحمار و هو الذي حمل أسفارهم و أعانهم على أثقالهم و تحمل كل بذائاتهم و عنفهم و لم يجاريهم في حيوانيتهم بل كان حيوانا نقيا وكانوا هم دون ذلك ، ولكنهم تعودوا التطاول و التبلد على العاملين بالصبر و الحالمين عند كل أذى فهم لا يحترمون بني جلدتهم و لا يتوانون على تعذيبهم و الإساءة إليهم لولا وازع الدين و سلطان القانون ، فمابلك بالحمار هذا المسكين في بلاءه و محنه من بني البشر ورغم ذلك خلق الحمار صبورا و كذا كانت سلالته و أحفاده من بعده ، لا يحملون في قلوبهم لا حقد ولا بغضا و شيمتهم الإخلاص في العمل و الوفاء بعد العشرة و اللقاء ، وإني سمعت في ما يحكى بين الرواة و القصاصين أن رجلا من القصيم في المملكة باع حمار الى راعي في منطقة بريدة و هي تبعدها بحوالي 90 كم ، مضت يومين على بيع الحمار و في اليوم الثالث و إذا بالحمار يعود الى صاحبه في مدينة القصيم فهاهنا بشر يبيع و حمار خالجه الحنان والوفاء فعاد ، فأين البشر من صفات الحمار الذي يعير يإسمه كل صاحب نقيصة أو غباء أو جهالة و كأن الحمار عنوان لكل هذا ، و الحمار ليس سببا في تعاسة البشر و انحطاط أخلاقهم و ليس سببا في قتلهم بعضهم بعض و لا الحروب التي أوقدوا نارها ، و ليس سببا في الاصنام و الأبقار و الأشجار التي عبدوها و لكنه كان سببا في ما وصلوا اليه من حضارة و استراحة و لو عدنا الى الصحيح من القول و ابتعدنا عن الطحيح لكان الحمار هو الذي يفرد تعليقاته عن بني البشر و قد قيل أنه كان لحكيم حمار و قيل ان الحكيم ورث وصية من أبيه يقول له فيها عن وصفة سحرية تصلح شفاء لكل داء ففرح الحكيم توما وراح يقلب في دفاتر الأب التعيس ، فوجد ورقة كتب فيها " الحية السوداء داء لكل دواء " و الأصل في القول " الحبة السوداء " فيقال انه بحث عنها فلما وجدها لدغته فمات ويقال انه تسبب في موت خلق كثير ، فعلق حماره قائلا :
لو أنصف الدهر كنت أركب لأني جاهل بسيط و صاحبي جاهل مركب ، فكان الأمر مدعاة لسخرية الحمار من صاحبه ، و إنه لمن الفرية الشائعة و التهم الكاذية رمي الحمار هذا الأنيس الصبور بتهمة الغباء الفطري و قد اثبت العلماء من خلال تجارب كثيرة ان الحمار يملك قدرا كبيرا من الذكاء يتفوق فيه على كثير من الأنعام و ربما صنفه بعظهم بثلاث الحيوانات ذكاءا بعد القرد و الحصان أكرمكم الله ، و مما قيل في نوادر و الطرائف في مدح الحمار قال الدميري في حياة الحيوان الكبرى: إن خالد بن عيسى الرقاشي كان يختار ركوب الحمير, فلقيه بعض الأشراف بالبصرة على حمار فقال: ما هذا يا ابن صفوان فقال: عير على نسل الكدار,يحمل الرحلة ويبلغني العقبة ويقل داؤه ويخف دواؤه ويمنعني من أن أكون جباراً في الأرض وأن أكون من المفسدين ، وإن أشهر حمار عرفه الأدب العربي الحديث هو حمار الكاتب المصري توفيق الحكيم و الذي ألف فيه كتاب سنة 1940 بعنوان " حماري قال لي " و يقول في دباجته كلاما مؤثرا " الحمار له في حياتي شأن ، إنه عندي كائن مقدس كما كان الجعران عند المصريين ، لقد عرفته منذ صغري في صورة جحش جميل اشتراه لي اهلي بثلاثين قرشا و جعلوه لنزهتي في الريف ، وكانت له برذعه صغيرة حمراء لا أنساها ,, وكنا خير رفيقين لا نفترق الا للنوم فقد كان في مثل سني أي في طور الطفولة في فصيلته ، كما كنت انا في الطفولة في جنسي .
و إن الشاهد من تبرأتنا لمقام الحمار و إتهامنا لمخالب الإنسان التي تزداد ضراوة ووحشية على أخيه الإنسان فما بالك بالحيوان و أنك لتنظر من حولك فتجد المعاني النبيلة التي رسمت لحياتنا كبشر صورا مشرقة قد اندثرت كأوراق الخريف ذابلة منتحبة و استبدلت ببيادق الحرب و غربان الظلمة فتجد منا من يفضل حمارا كتوفيق الحكيم على الأقران أو من يكتب في عناوين الكتب " فضل الكلاب على من لبس الثياب " فهل نحن منتهون عن نعت الحيوان بما نحن مبتلون به ؟