أن تكون طبيبا
ستعرف الكثير عن الحياة... و أكثر من الحياة عن الموت....
نشر في 29 ماي 2020 .
الساعة تشير إلى الواحدة ليلا
المكان: غرفة استراحة طبيب الحراسة
جلست وحيدة في الغرفة...الصمت يملأ الأرجاء... الهدوء و السكينة ينذران بأن المرضى و مرافقيهم قد خلدوا للنوم... أو ربما يحاولون ...تطل من نافذة الغرفة ...القمر مكتمل الليلة و يتوسط السماء السوداء... يؤنس وحدتها الموحشة...
جلست شاردة لم تكن تفكر في شيء... الوحدة اليوم تؤلمها... ربما هي ليست أول مرة تداوم فيها في المستشفى... لكن اليوم كل شيء غريب ...تنفسها سريع عيناها متعبتان ...ترى ما الذي جرى؟؟
رنّ الهاتف فجأة... إنهم يطلبونها في المستعجلات... حملت جسمها المنهك بسرعة... أخذت تنفسا عميقا و رسمت ابتسامة على محياها لتخفي ضعفها و غادرت الغرفة.
المريض رجل مُسنّ دخل في غيبوبة حادة بسبب نزيف في دماغه...تسرع هنا و هناك من أجل إيجاد مكان له في الإنعاش الطبي... بدون جدوى ... أبناؤه يسألونها... ينتظرون أن تخبرهم أن والدهم سيكون بخير.
وقفت كما تقف في كل مرة... كانت تبدو قوية و تتحدث بحزم... "والدكم يحتاج مكانا في الانعاش لأن حالته جد حرجة... لكن للأسف لا مكان ..." تستجمع قواها لتتلقى الكدمات... ملامح من اليأس تعلو الوجوه... و دموع تملؤ العيون...
أنهت فحص مرضاها و عادت تجر خيبات الأمل و أكيال التعب إلى غرفتها... و فجأة .... انهارت باكية... بكت ثم بكت ثم بكت و استسلمت لضعفها... ها هو خيالهم يزورها من جديد...ترى تلك الأم التي توفيت و تركت وراءها صغارا... تذكرت مروة و تذكرت حنان... تذكرت طفلا مبتسما لا يدري بأن مرضه سيفتك به قريبا... تذكرت شابا مات بسبب طيشه و لا مبالاته في السياقة.... و تلك الفتاة التي انتحرت لأسباب تافهة...
بدأت القصة بحلم بريء ...حلم صغير... مع عناد كبير...تريد الطب... الطب وفقط... لم تكن تدري لما....لكنها لم تكن ترى في نفسها شيئا غير الطب.
جاهدت طويلا من أجل تحقيق ذلك الحلم حين كان الجميع يخبرها بأن الطريق طويل... أن طريق الطب صعب و متعب... و لم يزدها ذلك سوى إصرارا على الوصول...
ثم بدأت سنوات الطب الطويلة تطوى سنة بعد سنة... 7سنوات من الدروس و الامتحانات و التدريبات الاستشفائية.... مرت بحلوها و مرها بحمد الله و توفيقه... سنوات تعرفت فيها على مبادئ في الطب... قابلت فيها أصدقاء و أشخاصا رائعين... سنوات كان يحول بينها و بين المريض ذلك الأستاذ المدرب....
و اليوم... ترى عشرات المرضى... تواجه حالات لوحدها...و يجب أن تتخذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب...
ترى ...ما الذي ينتابها الليلة؟
أن تكون طبيبا طالبا أو طبيبا داخليا أو مقيما فهذا يعني أنك تقضي في المستشفى وقتا أكثر مما تقضي في المنزل مع والديك...إخوتك أو أصدقائك...
أن تكون طبيبا يعني أنك سترى في اليوم عشرات المرضى...و تقابل حالات اجتماعية كثيرة و تفقد كثيرا منهم و أنت تحاول أن تنقذهم.
أن تكون طبيبا يعني أنك ستعيش فراق الأحبة و تضطر لإخبارهم بضعف الأمل...بل و أحيانا تخبرهم بنقص الإمكانيات و الأجهزة ... سترى الألم مرات و مرات... سترى ملامح الخوف و اليأس و الحزن... و سترى كيف أن الفقر و الجهل يقتلان أكثر من المرض...
ستخرج للعالم صامدا و حازما... فيظن الجميع أنك فقدت الإحساس بمعاناة الآخر... و أن الموت لا يهز كيانك و لا يؤثر فيك... بل و ستسمع كلاما جارحا مرات و مرات ممن أقسمت على خدمتهم... و ستضطر للإستماع لكل الإهانات... و لن يفهم أحد أنك تفقد بدل المرة مرات...فأنت ترى في كل امرأة أمك و كل طفل أخاك...في كل رجل أباك... لا أحد سيفهم لأن لا أحد سينزع الغطاء على وجهك الليلة... ليستمع لأنينك أو يرى دموعا ذرفتها لأجل أشخاص لم تقربك بهم صلة يوما...
أن تكون طبيبا يعني أنك ستعرف الكثير عن الحياة... و أكثر من الحياة عن الموت....
انتبهت فجأة... نظرت إلى البدر المشع... إنه يخبرها أنها تشبهه...في نوره الساطع حين اختفت كل الأنوار... و في الأمل و الدفء الذي يدخله على النفوس حين تقفل الأبواب... أخبرها بهمس...أنت نور الله في الأرض.
ابتسمت للقمر أخيرا... ابتسمت لأنها رغم التعب تعشق الطب... متعلقة هي به و لا تجد سعادتها إلا معه...
تذكرت أن الطب علمها معنى الحياة و كيف تقدر قيمتها... علمها أن تستغل كل اللحظات مع أقرب الناس إليها... علمها أن الحياة نعمة يجب زرع الخير فيها.
تذكرت أن الطب علمها معنى الصبر و الحلم... و أن لكل شخص قصة طويلة و متعبة...علمها كيف تزرع الأمل و الثقة بين الناس.
تذكرت أن الطب علمها أن الحياة دار بلاء... و أنها قصيرة مهما طالت...
تذكرت أن الطب علمها أن الإنسان بأجهزته من عقل و رئة و قلب... أكبر المعجزات... و أن الطبيب الذي ينكر أن للكون خالقا ...لم يعرف حقا عن الطب شيئا.
تذكرت أن الطب عرفها على أناس رائعين... يحبون العمل و مساعدة الغير... مجدون متفائلون و مجرد ذكراهم تسعدها... و تدعوها للاستمرار...
تذكرت ابتسامات اللقاء و دموع العناق... ملامح الفرح بعد الشفاء... وتذكرت دعاء المريض ...
للطب قصة طويلة لكنها عجيبة... جميلة و ممتعة... بحلوها و مرها... تأخذك إلي عالم الأحياء فلا تمل و لا تنتهي من اكتشاف عجيب الانسان... ثم تأخذك لتكتشف العلاقات الاجتماعية... و بهذا تكون فكرة ناضجة عن حقيقة الانسان و حقيقة الحياة....
إنها الثالثة ليلا...
ودعت القمر مبتسمة... حملت جسمها و قد انعشه شعاع أمل انبثق من القمر... و عادت لقاعة الفحوصات الطبية... تحمل أملا و فرحا و حلما...
كانت سعيدة ...لأنها حقا تشبه القمر....
التعليقات
أسرتنى حروف التعطش لاسعاد الناس
أسأل الله العظيم أن يفيض عليك سعادة فى الدنيا والأخرة
وان تعش لنفسك سعادة لها سر
وما يقبع فى النفوس الا الحب لكليهما
تلك إذا سجية النفوس الطاهره
تعطلت الرؤيا عند قولك القمر
وتنهد القلب عند قولك نور الله فى الارض
وكنت ايضا احلم بالطب ولكن ** كل ميسر لما خلق له
وصدقا تمنيت ساعة اساعد الناس فيها
وصدق المصطفى فى قوله
خير الناس أنفعهم للناس
وفقك الله عزيزتي ودمت فخراً لمهنتك
وشكرًا على كل ليلة سهرت فيها كقمر تتوشحين ذلك الرداء الابيض اتمنى لك أن تكملي هدفك الانساني بقوة وشجاعة بارك الله فيكِ ...