عمان تلد نفسها - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

عمان تلد نفسها

هيام فؤاد ضمرة

  نشر في 17 شتنبر 2023  وآخر تعديل بتاريخ 17 شتنبر 2023 .

*عمان تلد نفسها*

*هيام فؤاد ضمرة*

لهم وللحظات سمر تنبض بالحياة وتثير بالروح تشكيلات روحانية تنتشي بكل أناة في عدالة التوازن في ميزان تجملها وتجمل المدينة عمان ذاتها.

عمان تلك المدينة التي ولدت من جديد ولادة يسيرة غير موصوفة بالعسر، والتي عرفها سكان عمان الأقدمون على ما فيها من توافق وتشابه بكرم التعامل بما عرف اجتماعيا بحياة الجوار والتماسك المجتمعي، فقد كان طبع التعاضد والتعاطف صفة يختال بها مجتمع عمان رغم تنوع الأصول والمنابت فيها شركس وشيشان وشوام وفلسطينيين وبلقاويين وعشائر تستدير مواقع عيشها في دائرة حدودها،.

فقد اجتمع في سكانها طبع التعاضد على قلب واحد بلا تمييز ولا تعصب، تحكمهم روح المؤاخاة على شبق التواجد المشترك على بقعة واحدة من الأرض اجتمع همهم في إعمارها، فقد بدا مجتمعها سليم النشأة لا تمسه أمراض الحقد والحسد، متقارب الأرواح والميول..

فعمان الأمس ليست نفسها عمان اليوم على ما عرفها الكبار اللائي عاشروا ولادتها المبكرة إلى عمر شبابها ونهوضها الحضاري، بعدما حولها بنو هاشم عاصمة لحكمهم، وظاهروها باستقلال نشأتها الجديدة كعاصمة لدولتهم الناشئة حديثا، فقد ولدت عمان المدينة من جديد بوقت متقارب مع ولادة الأردن كدولة مستقلة تخيرتها عاصمة لها لموقعها الجغرافي الملائم لهذا الدور، ولعادة تاريخية قديمة أن تؤسس العائلات الحاكمة عواصم جديدة خاصة بها وبتاريخها الذي ستدل عليه تاريخياً منشآتها الكبيرة ومعدل تقدمها الحضاري من كافة النواحي.

عمان الأمس كانت تبدو كفتاة بكر حيية تحمل في تصرفاتها ميراثاً اجتماعيا عابقا بالمودة والتفاهم، فتاة يقيدها الخفر الجميل في حدود التنافس على العطاء والبناء بسخاء واجتهاد يمثله أهلها فيتلاقون على هدف الإعمار والبناء الحضاري دون منة ودون شكوى، القناعة والرضى تربض بسيماهم ونقاء دواخلهم، فتشتعل ملامحها بنور ونار اجتهاد أهلها، تربطهم علاقات تكاد تراها مشمولة بمودة عالية وتفاهم مستغرق بقيم الأصالة التراثية الموروثة كابر عن كابر.

فعمان اليوم اختلط بها الحابل بالنابل من التنوع السكاني الذي صنعته الهجرات المتتالية والمتوالية، هجرات خارجية وهجرات داخلية تتحرك كموج هاديء يلاحق بعضه بعضا، حتى أضحت كأرضية لوح الشطرنج تختلط فيه المربعات بين الأسود والأبيض، يتحرك عليه قوم ضخم تعداده من المهاجرين والأنصار، حملت هذا التنوع كعلامة من علائم التحضر القوي والصامد صمود جبالها وأحجارها، فالتنوع من شأنه أن يمازج بين الثقافات مستخرجا ثقافة مشتركة تمنحها سرعة التطور والتحضر.

لله درك عمان وأنت تتساوقين على أرصفة الاختبار في دنيا الوجود العتيد، تتنامين والأيد تتضافر لتبنيك المدماك على المدماك، حتى أضحيت من أجمل عواصم العالم وأشدها قوة عزم على الارتقاء الحضاري.

فعمان الأمس كانت عبارة عن جوهرة خام لم تتلاعب بها يد الصائغ العتيد، تتمايز فيها لمعتها على ما صنعتها عليه يد الطبيعة على هون مديد من الزمن، وعلى تؤدة تحكمها متغيرات تكوينية حقا بطيئة، لكنها متماسكة، قوية الترابط من الناحية الإنسانية والاجتماعية، لدرجة أن عمان ما كانت تعرف نظام الأبواب المغلقة، ولا سفرة الطعام المحكومة لأهل البيت الواحد فقط، فحين تتناثر روائح الأطعمة من كل بيت سرعان ما تتبعها حركة الأطباق المهداة بين بيت وآخر في شعور غامر بالمودة والعطاء.. هي هكذا عمان القديمة بروحها المنصهرة بالعادات الرائعة بالمثاليات من التراث الموروث على يقين القناعات.

ها هي عمان تستيقظ من غفوة غيابها المحدود بموتتها الصغرى، تفتح أعين الصحو على ركوة القهوة وهي تغلي فوق موقدها، مطلقة رائحتها لتعبق بالأنحاء كصوت أثير ينادي أهل الجوار للمشاركة بالحديث الصباحي العابق بالمودة والتعايش الهنئ، تتصاعد أبخرة القهوة من كل بيت، تطرق أبواب الجوار لتجمعهم على ألفة الجيرة المكتنزة بثقافتهم الاجتماعية المحبة للمشاركة..

فنظام الأبواب المفتوحة بأصلها هي سمتها الخيرة المعهودة، فلم تعتاد الأبواب أن توصد في عمان القديمة التي تميزت بالأمن والأمان، هي دوما مشرعة لأهل الجوار في حدود معقولة، لا تدخل في عرين الانفتاح غير المحكوم بعاداتنا المحافظة، والمحكومة بميراث تاريخي عريق، يحتم على الجميع احترام الخصوصية أيما احترام، تقديرا للظروف والخصوصية بالمجتمع المحافظ بحكم العادات الموثقة المتناقلة جيلا عن جيل.

ولعمان قصة جميله ترتبط بسيلها القديم الجاري صيفا وشتاءا بحكم الينابيع المنتشرة في خياض مجراه، مخترقا جسدها البكر من قاعدتها الجنوبية لمستقره الشمالي، ينحصر بمجرى رفيع بقدر الثماني أمتار ومجرى عريض في بعضه يصل إلى عشرات الأمتار، حيث بدأ الالتفاف السكاني للشركس حول منبعها برأس العين بالحي الذي عرف بالمهاجرين، ومن ثم متناثرا على مجراه حيث ازدحمت عددا من الينابيع المتزودة مياهها من ذات الخزان المائي في منبعها برأس العين، على ما ابدته الدراسات الجيولوجية لمجرى السيل فكان حي الشابسوغ وحي الأرمن وحي البخارية وسوقهم العتيد الذي ما زال مقصدا لكل المواظبين على الصناعات الفنية بما فيها صنعة الحياكة.

فتم اغلاق كافة هذه الينابيع لاحقاً وتم تركيب آلات الضخ والتعقيم على منبعها لتوزيعها على كامل أحياء عمان، تلك التي راحت تتوسع وتنمو مع بدء الهجرة الأولى للفلسطينيين بأعقاب هجرة الشيشان والشركس التي كانت قد أرسلتهم الحكومة العثمانية، بعد تزايد هجراتهم وهجرات الأرمن نحو قارة أسيا الصغرى التي هي تركيا العظمى، فامتلأت مدنها وقراها وبواديها بمخيماتهم حتى قارب تعدادهم على الملايين قدر نحو اربعة عشرة مليونا، فتم توجيه القوافل اللاحقة نحو الأراضي والولايات العربية لعمل توازن بالتوزيع السكاني، مختارين مواقع تدفق ينابيع المياة لاستكمال متطلبات العيش، حيث لا تكتمل الحياة إلا على مواقع تدفق المياه العذبة.

فبدايات عمان بدأت مع الجسد المائي المتلوي عبر وادي عمان تحيطة الجبال الشاهقة على مسافات شاسعة من مجراه، قبل اختراقه للأرض الصحراوية المارة عبر الزرقاء، المدينة التي ابتناها الجيش الأردني قريبا من مستقر وحداته العسكرية في صحراء خوْ، لتكون مستقرا لأسر منتسبي الجيش ضباطا وجنودا، فمن الطبيعي أن تبدأ كل حياة قريبة من منابع المياة القوية أو من مجراها المار عبر الأراضي الصالحة للحياة.

عمان اليوم تأهلت لحياة المدن الكبرى وقد نمت نموا سريعا ورهيبا خلال المئوية الأولى لتأسيسها، ورغم ذلك تأبى ذاكرتي إلا أن تصورها بمراحلها القديمة التي عاصرت زمنها منذ الطفولة حتى الهرم، كما أن الجامعات الأردنية أتاحت مجالا رحبا لتوسع فرص العلم والتدريب المهني ، فتخرجت الأعداد الكبيرة المتلاحقة المؤهلة لأنواع وتخصصات شتى منها ما هو تخصص علمي جديد أوجدته متطلبات الحياة.

فمن الطبيعي أن تصبح عمان عاصمة حقا فتية تجري بها دماء شباب متدفق، لكنها تنافس أقدم العواصم وأكثرها عمقا تاريخيا.. فهل تستحق عمان لغير حبنا وانتمائنا لها، فنحملها في أرواحنا وقلوبنا بقوة وتشبث، لضمان أن تحملنا هي بمكونات تاريخها، اهلا وسكانا بنوها بالسواعد والعلم والخبرات، وتعلقت بها القلوب إلى أن سكرت بها حتى الثمالة.

عمان اليوم تتيح لنا الاستيقاظ على نسق غير عادي من النشاط اليومي المكتظ بالبشر وعرباتهم المتحركة، وهي تتزاحم على الطرقات، تثير الفضول في قوة حراك هذا الشعب ليمارس العمل الجاد، يجتهد ليجد له منفذا نحو مواقع العمل لتقديم آيات النضال من أجل الارتقاء بالعيش ورفع مستوى المعيشة لشعب طموح مثقف.

سيستمر لعمان تدفق سكانها وتزايد تعدادهم باطراد متواصل، فهذه طبيعة العواصم في وطننا العربي المجتهد بالتكاثر، فتسارع معدلات الزيادة تحكمها عادات متوارثة ومفاهيم ليس من السهل انتزاعها من جذورها، فالشعوب العربية من المشرق إلى المغرب تقدس معنى الإنجاب وتحقيق الأمومة والأبوة.. لكن السؤال الذي يفرض نفسه بكل قوة:

في دول محدودة المساحة.. أتراها عمان لأي قدر تستطيع أن تتمدد وتفترش مساحات من الأرض..؟

ألا يتطلب هذا بناء مدن أخرى أكثر حداثة وأفضل تصميم يتناسب مع حالة المئوية الثانية في تزايد معدلات تعداد السكان، والهجرات المتلاحقة من المحافظات إلى العاصمة، لقصور الخدمات بالمحافظات عن أن تلبي متطلبات العيش الكريم والمريح المتوائم مع التطور الحضاري وتزايد تعداد السكان، فلكم أن تتصوروا أي قدر من الشقاء يعانيه أهل المحافظات مع عدم استحداث ملاحق للوزارات بالمحافظات، وعدم الاهتمام بما يكفي من الخدمات الطبية بمستشفيات المحافظات مما يعطل شؤون الناس ومصالحهم، ويتسبب بزيادة الجهد عليهم.


  • 1

  • hiyam damra
    عضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية
   نشر في 17 شتنبر 2023  وآخر تعديل بتاريخ 17 شتنبر 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا