في وداع عرّاب الجيل .. أحمد خالد توفيق
نشر في 03 أبريل 2018 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
جالسًا وحدي بعدما انتهيت من تناول غدائي بعد يوم عملٍ طويلٍ شاقٍّ في بلد الغربة .. أشاهد مباراة الأهلي وطنطا في الدوري العام بقليلٍ من الاستمتاع وكثيرٍ من التململ، خاصةً بعد أن ضمن الأهلي الفوز بالبطولة .. أمسكت بهاتفي محاولاً الانشغال عن تلك المباراة المملة ورحت أتصفح صفحتي على فيسبوك.
"الدكتور أحمد خالد توفيق في ذمة الله"
نزل عليّ الخبر كالصاعقة عندما رأيته على إحدى الصفحات المهتمة بالقراءة .. لم أصدّق في بادئ الأمر وظننتها مزحةً من تلك المزح ثقيلة الظل التي تملأ جنبات الموقع الأزرق منذ الأمس والتي يطلقون عليها "كذبة إبريل" .. رحت أتنقل كالمجنون بين الصفحات كي أقنع نفسي أن الخبر كاذبٌ .. لا .. بالتأكيد لم يمت .. لكن صدمتني راحت تكبر ودقات قلبي تزداد سرعتها وأنا أرى الخبر ينتشر كانتشار النار في الهشيم على كافة المواقع والصفحات .. جميع التعليقات غير مصدقةٍ وأغلبها يردّد أنها "كذبة إبريل اللعينة" .. إلى أن رأيت الخبر اليقين منشورًا على صفحة صديقٍ شخصي يعمل مع الدكتور أحمد في كلية الطب بطنطا:
"إنا لله وإنا إليه راجعون .. خبر وفاة الدكتور أحمد خالد توفيق في مستشفى الدمرداش بلغني الآن .. لا أستطيع استيعاب الخبر حتى الآن .. أفضل ما تفعلونه الآن هو الدعاء له بالرحمة .. هذا ما سينفعه بعد أن غادر دنيانا الفانية"!!.
نزلت كلمات صديقه على قلبي كطعنات خنجرٍ مسمومٍ، وأمام عيني بدأت غمامةٌ كبيرةٌ في التكوّن أتبعها انهمار دموعي مدرارًا بلا سيطرةٍ .. هل فقدت كاتبي الذي تربّيت على كتاباته إلى الأبد؟.. ألن أطالع مقالته الأسبوعية مرة أخرى؟.. ألن أشتري روايته الجديدة في معرض الكتاب القادم؟.. هل ستتوقف سلسلة "سافاري" ولن أعرف مغامرة علاء عبد العظيم القادمة؟.. هل ستظل عبير عبد الرحمن عالقةً إلى الأبد في عالم "فانتازيا" الافتراضي دون أن تعرف وجهتها القادمة؟!
راحت الأسئلة تحاصرني من كل جانبٍ مختلطةً بدموعي التي لم أعرف كيف أوقف نزيفها .. قلّما حزنت من قبل لوفاة شخصٍ بمثل ما أشعر به في هذه اللحظة .. كيف سأتحمل هول هذه الصدمة المزلزلة؟.. أشعر كأني طفلٌ كان يمسك بيد أبيه ثم وجد نفسه فجأةً وحيدًا من دونه تائهًا وسط الزحام .. كيف ذهبت هكذا فجأة بلا مقدماتٍ دون أن تخبرنا أنك سترحل؟.. أستغفر الله العظيم .. فلتسامحني يا الله ولتغفر لي تخبطي وشتاتي.
إنا لله وإنا إليه راجعون .. رحل من كانت كتاباته سببًا في حبي للقراءة منذ أن قرأت له أول عدد في سلسلة ما وراء الطبيعة عام 1995 .. رحل من علمني كيف أكتب وكيف أسخر من واقعٍ إليمٍ نعيش فيه، فانعكست روحه الساخرة على كل ما كتبته بلا استثناءٍ .. رحل من كانت كتبه سلواي في سفري وغربتي وأنا بعيدٌ عن الأهل والأحبة .. كنتُ – ولا أزال – أحمل بعضًا من كتبه معي أينما ذهبت .. لا أملُّ من إعادة قراءة رواياته القديمة، وأنتظر بمنتهى اللهفة والشغف كتابه الجديد.
أتابع في ذهولٍ كل المنشورات التي انفجرت لتملأ "التايم لاين" معلنةً خبر وفاته وتنشر اقتباساتٍ من كتاباته وتنعي رحليه المفاجئ .. أنشر أنا الآخر ذلك الخبر الحزين فتأتيني ردود أصدقائي غير مصدقةٍ .. الجميع في حالةٍ من الصدمة واللوعة لم تحدث من قبل إلا مع أقرب الأقرباء .. لم أرَ منذ زمنٍ تفاعلاً لحدثٍ ما أو حزنًا لوفاة شخصيةٍ معروفةٍ مثلما أرى الآن .. لقد ترك الدكتور أحمد أثرًا في عقول وقلوب جيل بأكمله، فكان الحزن عظيمًا بقدر ما أحبه قراؤه.
تذكرتُ آخر أعداد سلسلة ما وراء الطبيعة .. "أسطورة حامل الضياء" .. ذلك العدد الذي قرر فيه دكتور أحمد أن ينهي حياة بطله رفعت إسماعيل بيديه .. يومها اغرورقت أعيننا بدموع الحزن ونحن نودع العجوز رفعت لآخر مرةٍ .. يومها نعيناه بكل حرقةٍ كما لو كان شخصًا حقيقيًّا .. لم نتعامل مع رفعت إسماعيل يومًا على أنه شخصيةٌ وهميةٌ .. كان ارتباطنا به يزداد مع كل عددٍ من أعداد السلسلة .. نجح الدكتور أحمد أن يجعل بيننا وبين العجوز رفعت "عِشرة عُمرٍ" حقيقيةٍ، فكان وداعه أليمًا وفراقه مريرًا.
تذكرتُ "ماجي ماكيلوب" التي تمشي على العشب دون أن تثني منه عودًا و"هن تشو كان" آخر كهنة النافاراي و"لوسيفر" و"سام كولبي" و"عزت" و"سالم وسلمى" و"إيجور" و"هاري شيلدون" .. تذكرتُ "وحش لوخ نس" و"جانب النجوم" و"النداهة" و"الجاثوم" و"حكايات التاروت" و"رأس ميدوسا" و"برنامج بعد منتصف الليل" و"البدلة الزرقاء التي تجعله فاتنًا" .. حقًا لقد كنتُ بكم أسعد ولكم قلبي يطرب.
تذكرتُ روايته "يوتوبيا" التي صدرت قبل 25 يناير بثلاثة أعوام .. "يوتوبيا" التي تنبأ فيها الدكتور أحمد بمستقبلٍ مظلمٍ تنسحق فيه الطبقة الوسطى وتنزلق لتندمج مع طبقة الفقراء، وينعزل عنهم الأغنياء متحصنين وراء أسوار مدينتهم المحرمة على الفقراء .. وهو ما رأيناه بأعيننا يتحقق بعد صدور روايته بأعوامٍ قليلةٍ.
تذكرتُ "علاء عبد العظيم" و"برنادت" وتشنيكة أنفها و"آرثر شيلبي" و"بارتلييه" الطيب و"جيديون" و"بسام" و"بودرجا" و"إبراهام ليفي" العدو اللدود .. تذكرتُ ذبابة تسي تسي ومرض النوم وعمى الأنهار والحمى الصفراء والإيدز والمالاريا وجنون الأبقار .. تذكرتُ جبل كليمنجارو وحكايات الناتال وساحرة الأفاعي وقبائل الزولو .. تذكرتُ رواية "قصاصات" التي تستحق أن تُدَرَّس لأطفالنا في المدارس لكي يعلموا جرائم الصهاينة في فلسطين.
تذكرتُ مواقف الدكتور أحمد ومبادئه الثابتة التي لم يغيّرها تقلب الظروف والأشخاص والأيام .. تذكرتُ وقوفه في جانب الحق ورفضه للظلم بكل أشكاله .. تذكرتُ جرأته في التعبير عن مواقفه بكل شجاعةٍ دون خوفٍ أو مواربةٍ حتى لو كانت ضد التيار المتغلب، في زمنٍ أكلتْ فيه أغلب الأقلام على كل الموائد وفَضّل فيه الكثيرون أن يأكلوا من خبز السلطان.
تذكرتُ أخلاقه العالية وأدبه الجم وسخريته اللاذعة وثقافته الواسعة وتواضعه الشديد .. تذكرتُ ضيقه من إطلاق محبيه عليه لقب "العرّاب" لأنه يراه لقبًا يعطيه مكانةً لا يستحقها ويلبسه "روبًا" واسعًا ويضعه على عرشٍ عالٍ لا يستطيع أن يرى نفسه جالسًا عليه!.
تذكرتُ لقاءه التليفزيوني الأخير الذي أذيع يوم الجمعة الماضية عندما استضافه المبدع عمر طاهر - الذي أعتبره خليفة العرّاب ووريثه الشرعي في دنيا الكتابة - في برنامجه "وصفوا لي الصبر" .. تذكرتُ آخر كلمات الدكتور أحمد في هذه الحلقة عندما قال بأنه يكون في قمة الاستمتاع والسعادة عندما يرى الانعكاس الإيجابي والأثر الملموس لكتاباته في حياة قرائه، وقال بالنص: "لو مت دلوقت هكون مبسوط جدا" .. قالها ثم رحل بعدها بساعاتٍ وكأنه كان يودّعنا.
فلترحل يا عرّاب الجيل وأنت مطمئنًا سعيدًا، فقد تركتَ أثرًا سيظل باقيًا في عقل وقلب وروح كل من قرأ لك.
تختنق الكلمات في فمي ويرتجف القلم في يدي وأنا أحاول أن أجد في قاموس العربية ما يعزيني في مصيبة فقدك .. أفشل كلما حاولت صياغة جملةٍ توفيك حقك عليّ وعلى كل أبناء جيلي الذي يدين لك بالفضل الكثير .. أبحث في حروفي عن كلماتٍ تعزيني وتواسيني فلا أجد أفضل من كلماتك وأقوالك التي تركتها لنا .. ففيها من العزاء – لنا وللأجيال القادمة - ما يكفي ويفيض.