كان يمشى وسط الزحام ، يركّز بطريقه إلى بيته ، مهرولاً، خائفًا ، تتعرقُ جبينه .. فقد سمِع بالأمس فى نشرة الأخبار أنّ إسرائيل سوف تقصفُ غزة فى اليوم التالى ، والآن أرسلته أمه ليشترى لهم بعض البضائع ..
والده ووالدته فقراء ، أميين ، لا يتابعون الأخبار كثيرًا ، ولا يقرأون الجرائد ، هم فقط يتمنون أن ينعموا بحياة سالمة هادئة .
أما هو -ذاك الذى لم يتجاوز العاشرة- فقد كان على دراية بكل ما يحدث ، وكان قلبه دائمًا يشتعل نُصرةً للقدس والأقصى ، ويتمنى الشهادة فى رحابهما ، لكنه يُحب والديه وأسرته وبيته .. يخافُ أن يُصاب بأذى أثناء جهاده ومقاومته للإحتلال ، فيُصاب والداه بالهم والحُزن ، فكان دائمًا يطمئنهما ويؤكد لهما أنه لن يخرج فى أيةِ إحتجاجات أو مظاهرات .
فى ذلك اليوم .. لم يكن يدرى أن والداه يجهلان أمر القصف وأن إسرائيل سوف تبدأ القصف فى الصباح الباكر .
كان يمشى بعيون شاردة ، يهرولُ ناحية بيته ، ولكنه لم يكد يصل للبيت حتى سمع أصوات القذائف والطائرات تحلّق فوق رأسه ، وإذا به ينطق الشهادة ، ويجرى مسرعًا ليطمئنّ على أهله ، فتباغته القذيفة تلو الأخرى ، وتسقط أمامه القذائف ، فتتطاير الشظايا لتصيبه فى جبينه .. ولكنه لم يكن يملك رفاهية الإنهيار أو البكاء أو حتى طلب المساعدة من أحدهم .
فقد رأى الجثث تتناثر حوله فى كل مكان ، والشباب يهرولون ناحيتهم ، منهم من يبكى بجانب أخيه ، ومنهم من يحمل أبيه للمستشفى ، ومنهم من فقد أهله جميعًا ويتحرك هائمًا وسط الدمار .
لم يستطع صاحبنا أن يفكر فى إصابته ، وما لبث أن وجد نفسه ينطلقُ ناحية البيت آملاً أن يجد كل من فيه سالمين غير مُصابين ، بينما كانت تُلاحقه القذائف والصواريخ بغيرِ رحمة ، ولكن عناية الله به أوصلته لبيته مُصابًا فقط فى جبينه .. وما إن رأته أمه بهذه الحال -ينزفُ دمًا من جبينه ويضع يده الصغيرة فوق الجرح ويمسك باليد الأخرى كيس الخبز الذى لم يلحق أن يحضر شيئًا غيره- حتى بدأت بالصراخ والعويل وإحتضنته ، فطمأنها أنه بخير ولم يصبه أذى .
جلس الطفل على الأريكة ينظر إلى حاله وما حلّ به ، وقلبه يدقُ دقًا من شدة الخوف ,,فلا يجد النقود فى يديه ، ولا يجد حذاءه الذى طار أثناء هرولته ، أما عن ملابسه .. فقد تمزقت وأصابتها الشظايا التى أصابته .
جلس ليتذكر مشاهد الشهداء والفقراء والجرحى والأبرياء ، فبكى من شدة هول المنظر...وتذكر مناظر البيوت والأنقاض والدمار والشوارع ، فنظر بعيون كالصقر وتوعّد على أن يأخذ بالثأر ...
الثأر لأمه الباكية ، وأبيه الفقير ، وإخوته الأبرياء ، والأراضى والأصدقاء ، والوطن والأوفياء .
إنهم مشاريع ثأر ، لا ترهبهم الحروب بل تنبت القوة فى قلوبهم !
فعندما تشتعل الأفئدة بحب الوطن والجهاد فى سبيل الله والأرض ، فلن تستطيع مليون قذيفة إخمادها !