الوطنُ المالح - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الوطنُ المالح

  نشر في 23 يوليوز 2014 .

وانسلتْ خيوط شمسِ الفجر في ذلك الصّباح النيسانيّ بعد انقضاء تلك الليلة .. ولدت من رحم الظّلام بعد مخاضٍ عنيف ، لم تكن ليلة ذلك الشّاب كسائر الليالي فلم تعرف عيناه النّوم ، استقبل الفجر بشغفٍ علّهُ يجدُ مع بزوغهِ ما يجيب عن تساؤلاته التي أفنى تلك الليلة بإملائها على نفسه ، السّؤال تلوَ الآخر ، وفي كلِّ مرةٍ يلقى جواباً ما ، يتراجعُ ، ويتراجع ، ويعيد الكرّة ، كمن يدور في حلقةٍ مفرغة ، أهو الحنينُ مجدداً ؟؟ سألَ نفسه ، ألم يألف هذا الحال المفروضُ عليهِ رغمَ أنفه ؟؟ كيف للإنسان أن ينسى ماضيه الغابر أو أن يلقي بهِ في وديانِ التّجاهل ؟؟ كيف لهُ أن يمضي في حاضرٍ لا يريده ، وأن يتقبلَ بصدرٍ رحبٍ تلك الأفكار التي يثيرها عقلهُ الباطن لينظرَ إلى الأمام ولا زالت يدٌ ما تشده بعنفٍ نحو الخلف ؟؟ ، لم تجدي الليلةُ الفائتةُ أيضاً ، كما سابقاتها من نظيراتها ، وسيقومُ إلى يومٍ جديدٍ ليس بمختلفٍ كثيراً عن سائر أيامه التّسعينَ الماضية .. يومٌ جديدٌ من إظهارِ الاحتفاءِ الكاذب بالحاضر وتوزيعِ الابتساماتِ الفارغة على سكان الجوار وغيرهم .. قطعَ جرسُ المنبهِ أفكارهُ تلك ، جرسٌ ليس بذو أهميةٍ هذا الصباح ، فقد كان متنبّهاً طيلة ساعات الليل ، نسماتُ الصّباح حفزّت شهيتهُ للنوم ، غطّ في نومٍ عميق ، أبتعدَ عن الواقعِ وابتعد ، تراءى لهُ كل شيءٍ بلونٍ أكثر بياضاً ، الأسودُ غدا رمادياً ، والأحمرُ قرمزياً ، اجتثّهُ النومُ من مأساته ، حلّقَ بهِ بعيداً ، إلى هناك ، حيثُ الوطن ، حيث شهوةُ الخلود ، حيثُ يرغبُ بالعيشِ ألف عام ، أو لا يموتُ أبداً .

أفاقَ ، فركَ عيناه ، نظر حوله ، كل الدنيا حولهُ تتحرك ، نزلَ إلى الشوارع ، جالَ بين الأزقة ، رأى المحال التي طالما تنقلَ ما بينها باحثاً عن عمل ، نزلَ صوبَ البحر ، حيثُ يُفضي إليه همّهُ دائماً ، ويشعرُ بهِ يسمعه ، فيحزنُ لأجله ، ويهدأ ، وقفَ أمام البحرِ اللا متناهي يصرخ : " أيها الميناءُ الوردي ، هناك ، وراءَ هذا الأفق ، أما من سفينةٍ تبحرُ بي إليك ؟! " ولكن ياللأسف ، البحرُ رحب ، والميناءُ بعيد ، والسفنُ تتعب ، وتضيعُ وتضيع ولا تطاله ، وما من مرساةٍ ترسو هناك ، حيثُ سفينةُ الحربِ حطت رحالها ، جلسَ على الشاطئ ، ودَّ لو يرقص ، لو يطير ، لو يستحيلُ هذا البحرُ إلى دربٍ معبّد ، ودَّ لو يجن ، فيقودهُ الجّنون إلى قطعِ المسافات سباحةً ، السّباحةُ إلى ما لا نهاية ، أفضلُ من تجرعِ علقم الغربة .

في غرفته تلك التي تشبههُ يفتحُ دفتر مذكراته ، تسقطُ منه الأوراق ، الرسائل ، رسائلهُ إلى الفتاةِ التي يحبّها ، القابعةُ هناك ، وراءَ الحدود ، حيث يفصلهُ عنها ألفُ حلمٍ وحلم ، رسائلُ كثيرة ، غيرُ مرسلة ، فما من ساعي بريدٍ يخاطرُ بنفسهِ لإيصالِ رسائلِ الحبِّ في زمنِ الحرب ، تلك الفتاة ، التي لم يرها ولم يسمع صوتها منذ غادرَ وطنه ، تلكَ الفتاة التي أحبّها وأحبّته ، منذ الطّفولة ، تتلمذا معاً ، وكبرا معاً ، أحبّا وطنهما ، فكانَ في العشقِ ثالثهما ، يكتبُ الرّسائلَ كلَّ يوم ، ويتخيلها تقرأ ، وتبتسم ، يضحكُ على نفسه ، على ذاتهِ المتعبة ، يوهم نفسه ، عامداً يوهمها ، علَ الوهمَ ينسيهِ شيئاً من مرارةِ الواقع .

لم يجد أي عمل ، ولم يستطع الالتحاقَ بالجامعة ، حالتهُ في تدهور ، حلَّ الليل ، حملَ معه ألفَ فكرةٍ وفكرة ، سأذهب ، وأكملُ دراستي ، وبعدها سأعود ، ووطني ؟؟ ، أأبتعدُ عنه أكثر ؟؟ ، لكنني سأعودُ صالحاً ، حاصلٌ على شهاداتٍ دراسيةٍ عالية ، عندها سيكونُ وطني حفيّاً بي ، وأردُ الجميلَ بأحسنِ منه ، أغمضَ جفنيهِ على تلكَ الأفكار وغطَّ بين كوابيسهِ والأحلام.

الإبحارُ هذه الليلة ، قضى النهار كلّهُ يجولُ في الغرفة ، ذهاباً وإياباً ، يريدُ الرحيل ، ولا يريد ، " الوطن ، أليسَ أغلى ما تملك ؟ ، كيف تبتعد عنهُ أكثر ؟ ، ولكنكَ بعيدٌ الآن ، ستذهبُ إلى بلادٍ تقدّسُ الإنسان ، تعترفُ بكيانه ، والوطن ؟! ، يا إلهي ، أكادُ أجنّ " دارَ هذا الحوارُ مراتٍ ومرات بينهُ وبين نفسه في تلكَ الليلة ، حزمَ بعضَ الأمتعة ، في حقيبةٍ صغيرة ، وقفَ على عتبةِ المنزل ، كمن يقفُ على عتبةِ الجحيم ، إلى أين هو ذاهب ؟ ، غربة ؟! ، مهجر ؟! ، الوطنُ خلفهُ والدربُ اللا منتهي أمامه ، كأشباحٍ في الليل ، عبروا بين الأزقة ، حتى وصلوا إلى الشاطئ ، كانوا سبعة أشخاص ، سيقلّهم مركبُ صيدٍ صغير ، إلى أرضِ النجاة ، مضوا .

أمي ، أنتِ العشق ، الرّوحُ والجّسدُ في آن ، لم أستشعر دفأ الحضنِ إلا عندما ذقتُ صقيعَ الغربة ، وصقيعَ غرقي هذا ، تتوهُ الكلماتُ في وصفك ، وتضيعُ على لساني وأتلعثمُ إذا ما نطقتُ حروفَ اسمكِ ، السماءُ جسدك ، والأرضُ كلها لا تساوي بضعَ ما فيكِ من سعة ، ما من شاعرٍ أنصفكِ ، وما من بليغٍ وصفكِ وأجاد الوصف ، خالدةٌ أنتِ ، عاصمةٌ أزليّةٌ للدهور ، روايةٌ عمرها ألفُ دهرٍ ونيّف ، طاعنةٌ في القِدم ، عدد صفحاتها لا متناهي بعددِ الكلمات التي تكفي لوصفها ، سيمفونيّةٌ ملحميّةٌ أبديّة ، اسمها سوريا ، وطنٌ لمن لا وطنَ له ، لا متناهي ، حدّهُ الشمس ، وما فوق السماء بسماء ، فاغفري لي .

شاهدَ أوراقهُ تطوفُ على سطحِ الماء ، وخفتت من حولهِ أصوات من كانوا معه ، رأى الشمسَ تصعدُ بطيئةً كئيبةً من الشرقِ الحزين ، المتداعي ، المتقهقر ، بكى ، وبكى : " أيها الميناءُ الورديّ ، هناك ، وراءَ هذا الأفق ، أما من سفينةٍ تبحرُ بي إليك وتنتشلني من غرقي هذا ؟َ! " ، كوطنهِ يغرق ، امتلأ جوفهُ بالماءِ وبالملح ، من بكى كلَّ هذه الدّموع ؟! ، أي حزنٍ ملأَ هذا البحر ؟! ،نظرَ صوبَ الشّمس : " سأعرجُ عليكَ يا وطني ، في رحلتي نحو الخلود " ...


  • 8

  • سامر النجار
    أعيشُ على هامشِ الحياة ، أقتاتُ الكلمات ، وكلُّ ما لدي قلمٌ وبضعةُ أوراقٍ وعشرون عاماً على هذا الكوكب .
   نشر في 23 يوليوز 2014 .

التعليقات

رائعة
0

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا