عندما كلَّمت الحافلة، فسمعتني -قصة قصيرة- - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

عندما كلَّمت الحافلة، فسمعتني -قصة قصيرة-

تعلم أن تعتزل الألم للحظة...

  نشر في 31 ماي 2020  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

-هل تذكرين اخت صديق ابن عمي؟ لقد توفي ابنها البارحة في حادث مروع بإحدى المهرجانات الليلية... انظري لهؤلاء المسؤولين اللامسؤولين ، خربوا شبابنا و بيوتنا ... الله ياخد فيهم الحق...

- آه يا أختي... اسكتي اسكتي... واحد الولد حتى هو دخل الانعاش بسبب حادث بدراجته النارية...

- لا حول و لا قوة إلا بالله ... و الله هادي علامات الساعة ... الشباب يموت صغير و المعيشة غالية ... و الحروب في أي مكان... و الأمراض يا ربي السلامة ...

- واش هادي بلاد اللي ما يعيش فيها غير الغني؟ أنا إنسان مريض و محتاج الدوا و مسكين و لا أحد يهتم...

استيقظت باكرا ذات صباح ... و خرجت متفائلة ، عازمة على قضاء يوم جميل و مميّز...كيف لا و الجوُّ مُعتدل و أشعّة الشّمس دافئة و صوت العصافير يطرب الآذان...

انتظرت الحافلة غير مكترثة لتأخرها ... أولا ،حتى لا يتعكر مزاجي، و ثانيا ، لا جدوى أصلا من الاهتمام لساعة وصولها ، فالحافلة عندنا تصل فقط حين لا تنتظرها.

ركبت الحافلة غير مُهتمة لازدحامها... حفاظا على صفو المزاج ... و اخترت مكانا استراتيجيا للوقوف ... فبالرغم من قلة الهواء إلا أنّني كنت راضية كفاية عن مكاني ... فالرضى أول مرحلة للحفاظ على السعادة في يوم جميل كهذا.

و قبل أن أحاول الغوص في بحر من الذكريات الجميلة...انتبهت لمجموعة من النسوة الجالسات على تلك الكراسي النادرة... يتعارفن على بعضهن البعض و يستأنسن ببعضهم البعض... فقد قضت العادة أن يقضي الركاب وقتهم في أحاديث تنسيهم طول الطريق ... و تحجب عن آذانهم أنين الحافلة.

لكن ... و يا ليتني أبحرت قبل أن أستمع لحديثهن المُميت ... لقد استعرضن على بعضهن البعض آلام الجيران و أحزان الأقارب و مشاكل الحياة، لعنّ الحكومة و المسؤولين و النّاس أجمعين.. و فجأة تفتحت شهية باقي الرُّكّاب لوجبة إفطار شهية من أخبار الموت و الطّلاق و الحروب و المرض... فهل كان هذا كلُّه جوعا و عطشا للألم؟

تنبهت إلى حافلتنا المسكينة ... يبدو أنها لم تعد قادرة على الصُّمود ... فرغم ازدحام الركاب و التصاقهم ببعضهم البعض، رغم هذه الوجوه الكئيبة و الغاضبة و المتعبة.. رغم كل هذا ، لطالما كانت وفية و حريصة على انجاز مهمتها... و إن تأخرت تصل ... على الأقل في أحسن الأحوال.

و في لحظة أحسست أن الألم يغمر الحافلة... كيف لا وقد تصدأ مُحرّكها بكلمات تقضي على كل معاني الأمل و الصمود بل تقضي على معنى الحياة نفسه...

و بدأت الحافلة تتباطئ رُويدا رُويدا... و من حين لآخر تُنذر الركاب ببعض الأصوات الغريبة... ربما ستتوقف و تتقيء ما ببطنها من ركاب لتتخلص من كلامهم الذي سرى كسُمّ بداخلها... سترمي بنا للشارع لنقضي صباحنا "الجميل" في انتظار حُلم توقف حافلة أخرى... و أيُّ حافلة سترضي بابتلاع سُمّ قذفته أختها؟... أتخيل أن تحاول حافلتنا الانتحار بسبب اكتئاب حادّ ... فتنقلب و من فيها ... لا قدر الله...

و لأنّ النّاس أصبحوا يفطرون بالألم و يتغذون عليه... أصبحوا يدمنون أخبار الألم... بل و يتنافسون في استعراض أكبر و أكثر الآلام على أساس أنّهُ بقدر الألم الذي تعرفه بقدر معرفتك للحياة و بالتالى حكمتك.

تمنيت فقط حينها لو امتلكت جرعة من الشجاعة لآخذ الكلمة داخل تلك الحافلة البئيسة، و أُخبر العالم بما لديّ من أخبار جميلة عن الحياة... غير أنني ، أولا لا أملك تلك الجرأة و ثانيا ... أخشى إن حاولت ذلك أن يكون مصيري مصير من يحاول إبعاد مُدمن مخدرات عن جرعته قبيل حُصُوله على نشوة كان ينتظرها بل كان في أمسّ الحاجة إليها...

بدأت أفكر في الحياة... لماذا لا تبدو لي سوداء لهذا الحدّ؟ اتراني لا أُدرك حقيقتها بعد؟ أم أنّه ليس في الحياة ما يجعلنا نحبها و نستمتع بها؟ ... بل و نشكر الله عليها؟

كنت مصرّة على قضاء يوم جميل و كنت مستعدة لفعل أي شيء مقابل ذلك... لذلك قررت أن أُكلّم الحافلة... نعم، أنا لا أهذي، كلّمت الحافلة يا سادتي.

لك أيّتها الحافلة سأبتسم و سأجعلك تستمتعين بما لديّ من أخبار سارّة ...

دعيني أحدّثك عن ولادات جديدة و أفراح قريبة..نجاح صديق ، و تخرج طالبة ، عودة مغترب و فرحة تائب...

دعيني أخبرك عن تفتح تّلك الزهور العطرة وتلك الأشجار المثمرة.. عن خضرة الطبيعة وزرقة السماء الصافية عن إطلالة الهلال واكتمال القمر..

ألا تعلمين أن فلاناً قد شفي من مرضه؟ وهو عائد اليوم إلى أسرته؟ هل تعلمين أن شمل أسرة قد جمع أخيراً؟

ألا أحدثك عن ضحكة طفل صغير وابتسامة جارنا صباحاً.. عن عناق صديقين وأحلام رفيقين..

نعم، أنا أحدثك عن الحب عن العطاء.. عن الصدق والتسامح.. عن الكرم والحلم.. أنا أحدّثُك عن الحياة..

قد يكونُ خيالي واسعاً كفاية لأتكلّم سرًّا إلى حافلة.. لكنّني أحسست في لحظة أن حافلتنا تستعيد نشاطها.. فما عادت تئنُّ من الألم ولا تُنذرنا بالتوقف.. إنّها تسير بهدوء، بثبات، بكل ثقة.. لقد استطاعت على الأرجح سماع نبض الأمل بداخلي.. ولربما بداخل آخرين من الرُّكّاب، فأقسمت أن لا تستسلم ولو من أجل شخص أو شخصين..

لا تحدثوني عن الألم اليوم، فأنا أحاول استعادة عافيتي من كدمات الألم السّابقة.. لا أريد أطباقاً مُتنوعة ولو هدية إن كانت أطباق بؤس ومعاناة.

اليوم قرّرت أن أستقبل الشمس بدل استقبالها لي كل يوم.. سأصلي وأدعو وأناجي ربي وأنا أستمتع بأولى خيوط الشمس وحركات الطير.

سأتنفس بعمق لأستنشق نسيم هذا الصباح النّقي، سأسلم على والدَيَّ واستمتع بذلك الدعاء الصّادق الذي يخرج من قلبيهما.

سأستمتع بكتاب بعيداً عن ضجيج الركاب.. أو أغوص في بحر الذكريات لأزور أماكن وأرى وجوهاً كلّما تذكرتها ابتسمت، وزادتني إصراراً على الاستمرار في الحياة.

ربما سأفاجئ خالتي اليوم برنّة هاتف، أو صديقة برسالة قصيرة أو ربما سأُحضّرُ كعكة مُكوّنة أساساً من قطرات حُبّ أفاجئ بها والدَاي وإخوتي، فأستمتع بفرحهم وابتساماتهم..

إن فكّرت بما يمكنك فعله لتَسعَدَ وتَنشُرَ السّعادة من حَولك، لَما كَفَتكَ الأيّام لفعل كل ذلك، فالحياة بجمالها وحَماستها وعَطائها وجاذبيتها.. قَصيرة!

غير أن نَظراتنا القَاصرة للحياة، والتي تُعَلقُ سعادتنا بلحظة، بشخص، بحدث أو بمكان أو بشيء.. هي من تُقَزّمُ الحياة في ناظرنا.. لتَبدُوَ مُزدحمة بالمَلَل والألم.

قد نَظلُّ نَقرأُ كلمات تُحفّزُنا على الإقبال على الحياة، قد نُمضي حياتنا نبحث عن طريقة للقضاء على حزن دفين بداخلنا.. لكن فقط عندما نُقرّرُ أَن نَتوقَّفَ عَن البُكاء، عَن النَّدم وعن سَرد خيبات الأمل.. فقط عندما نقرر التوقف عن الاستمتاع بآلامنا وآلام الآخرين.. فقط عندما نقرر أن نكون سُعَداء.. سنَجدُ إلى السَّعادة ألف طريقة و طريقة.


انتهى


  • 8

   نشر في 31 ماي 2020  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

Fatma Alnoaimi منذ 3 سنة
"فقط عندما نقرر أن نكون سُعَداء.. سنَجدُ إلى السَّعادة ألف طريقة و طريقة."

حقيقة
لاتبحث كثيراً عن السعادة
سعادتك بين يديك
تنبع من اعماقك.
كلماتك مميزة كعادتك
حفظك الله ورعاك.
2
Abdou Abdelgawad منذ 4 سنة
بارك الله فيكم والله لقد شعرت بالفعل بالسعادة بانفعالى بكلماتك وتعايشى معها ومشاركة الحافلة فى حديثك الداخلى وكأنها بالفعل سمعت وتجاوبت وعاودت السير رغم مشاكلها بعد ان كادت تتوقف.. انها رسالة لكل انسان يتألم ويستسلم لألمه ويستمر طويلا باكيا على الاطلال بينما العالم يجرى وينطلق ليفيق ويبحث عن أمل جديد وحياة جديدة ونجاح جديد وصديق جديد وحبيب جديد وحلم جديد وعمل جديد يعوض الفشل ..لابد ان يجد حلولا لمشاكله وآلامه ومن يبحث عن السعادة حتما سيجدها .. كن جميلا ترى الوجود جميلا .. تحياتى لحضرتك ودام قلمكم وابداعاتكم.
2
زينب بروحو (Zaineb Brh)
شكرا لمروركم و إضافتكم الطيبة أستاذنا الفاضل.
تحياتي

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا