جنون دالي يراقص صرخته " وحيدا " - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

جنون دالي يراقص صرخته " وحيدا "

بقلم - أمل ممدوح

  نشر في 25 ماي 2015  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

     بقلم - أمل ممدوح

     قاع النهر صندوق أسراره ، فقاعه ما يخلق لونه ، وينبىء بتاريخه وطبيعته ، وكذلك تحوي الأحلام شفرة العقل والروح والتجارب ، فالعقل الباطن مأوى الصرخات المكبوتة والألم المدفون والحلم المحبط ، ومن قاع النهر الإنساني وإليه انطلق بفرشاة مجنونة متمردة جامحة في عالم رأته الأصدق فارةً من واقع لا تعترف بوجوب هيمنته ، يطلق فيه بدوره ضجيجه وفوضويته وثورته وسخريته ويصدر للعالم منطقه الخاص المتمرد على منطقه السائد ليصيغ العالم من جديد برؤاه ، بفرشاة اللامعقول والحلم والسيريالية التي يراها أنها هو فيقول " أنا السيريالية " ، إنه "سيلفادور دالي" الفنان التشكيلي الأسباني عظيم السيريالية ، المثير للجدل بفنه الذي يتحدى غرائبية الأحلام ذاتها ، وبجنونه وتصرفاته الغريبة وفضائحه ونرجسيته الطاغية ، يصارع في لوحاته تناقضاته وتناقضات واقعه ، ويطلق فوضاه حرة لكن بسيطرة متقنة كاملة داخل لوحة وألوان متزنة تميل للقتامة يهدأ معها ضجيجه الصارخ ، ومثل هذه الشخصية بتناقضاتها وعالمها اللامنطقي تحمل فكرة تجسيدها بحد ذاتها إثارة أخرى ، فكيف يجسد هذا التضاد وهذا العالم الداخلي لثائر على المنطق ؟ كيف نبحث بمنطقية في اللامنطقي ؟ كيف نجسد ما لايجسد ؟هنا كانت صعوبة فكرة العرض المسرحي " وحيدا " الذي عرض مؤخرا على مسرح أوبرا ملك ، ولذلك فالفكرة بحد ذاتها تستحق التقدير لعدم تقليدية موضوعها العام عن فنان تشكيلي أجنبي وموضوعها الخاص في تناول العالم النفسي لهذا الفنان ..بل فنان في تعقيد نفسية وشخصية دالي يرى أن الفرق بينه وبين الجنون أنه ليس مجنونا ، فهو التحدي الأكبر ، ومجرد خوضه مسرحيا في رأيي تحليق أبعد وتجديد للدماء يستحق التقدير والإشادة ، والحقيقة أن العرض الذي كتبه وأخرجه رضا حسنين صيغ في جوه العام ومعظم عناصره بأسلوب يتفق مع السيريالية والتي يعمل وفقها عقل دالي ، وهو ما أعتقد أنه اختاره الكاتب المخرج .. الجو النفسي لدالي لا منطقه الذي يتمرد على المنطق بالأساس ، ومن هنا يمكن تفهم نثر الجمل الحوارية والمشاهد فيما يصنع إجمالا تداعيا حرا يلملم مفردات كيان مبعثر كالجنون ، إلا أن الكتابة وإن نجحت في ذلك أغفلت تعميق منبع أزمته وتفسيرها وهذا هام للمتلقي العادي لإدراك معنى ومنبع الوحدة كما عبر عنها العنوان واختارها توصيفا موجزا أو شاملا " وحيدا " ، فالحوار الذي كان عبارة عن مونولوجات لدالي أو ديالوجات في الأغلب مع الشخصية الأخرى له التي تصارعه والتي تجره للواقع ومنطقه ، هذه الجمل الشظايا المفككة في الأغلب وإن كان ذلك يناسب خلق جو العقل الباطن ولغته ومذاق الأحلام والسيريالية بالفعل ، إلا أنها أيضا لم تتح سوى تصوير لعالم دالي الداخلي بتشظيه دون الغوص في تفسيره لإيصال الصراع فيصبح مفهوما للمشاهد في مبرراته ومنطلقه ومستندا لنقطة ارتكاز دون ضرورة لقراءة أو معرفة مسبقة وكان هذا سيكون التحليق المتقن ، وذلك بالرغم من الإعداد الجيد والاستناد لأهم ما أثر في شخصية دالي وأهمها في رأيي كونه كان ابنا بعد أخ له توفي فسمي بنفس اسمه وكان يعامل كأنه هو أو أنه دائما البديل .. بل بديل محبِط ، وهو ما خلق ربما بذرة الازدواجية في نفس دالي والدفاع عن الذات بجنون العظمة ، وهو أيضا قد يكون ما دفعه للعزلة أو سبب له نوعا من الاضطراب النفسي ، لكن النص ذكر ذلك بشكل عارض في جمل خاطفة كالفلاشات دون عرض ولو جانبي يوضحها أكثر بشكل يتناسب مع العرض ، لو أن النص غاص لتشريح أعمق لنفسية دالي وفهم صراعه لأعطى ذلك متانة للبناء ودعامة للصراع ، كما أن قراءات دالي واتجاهاته الفكرية أثرت في بناء شخصيته ولم يتم التطرق لذلك ولو من بعيد ، كتأثره في شكه بديكارت وفي نزعة القوة والتفوق بنيتشه التي على إثرها تأثر بشارب نيتشة مع مبالغة منه فصار يعرف بشاربه المشدود لأعلى من الجهتين ، وحتى بفكرة النسبية في كل شيء والتي بدت في لوحته " إصرار الذاكرة " والتي تبين نسبية الوقت والزمن ، مزيد من البحث والتشريح كان قادرا على إعطاء ثقل أكبر للحوار والبناء ووقع أوضح لدى المتلقي ولو كان عن شخصية غير واضحة .

      لكن العرض في نفس الوقت نجح في صبغ معظم العناصر بصبغة واحدة منسجمة بحيث تعبر عن الأعماق وتجذب المشاهد إليها لتأملها .. كالتصميم الحركي الذي وفق فيه محمد فوزي بدءا من التقديم التدريجي لازدواجية دالي وقبوع آخر بصوت مختلف فيه يمثل الواقع وماديته أوعقلانيته مقابل ثورة دالي وخياله ولا معقوليته ، وقدم لذلك من خلال فكرة المزاوجة بين دالي وظل خلف الستار يؤدي نفس حركاته في نفس التوقيت ، وقد كان استخدام الستار وفكرة الظل من خلال الحركة خلفها مناسبا جدا للموضوع وما فيه من إيحاء بالخيالات والخفايا الداخلية وبالطبع ما تعنيه فكرة الظل نفسها من مزاوجة ، هذه الستارة الخلفية كانت أساس الديكور الذي لا يعدو بعد ذلك سوى بضع قطع متناثرة تستخدم في العرض كالهاتف أو عدسة مكبرة ينظر فيها فيرى أحيانا أعمق مما نرى أو أنبوب الأكسوجين الذي يرتديه لأنه مختنق من العالم لا يستطيع التنفس فيه وهو من لا يفهم ولا يتقن لغته كما ورد في الحوار ، بالإضافة لذلك ووسط جنون عالم دالي ومساحات الفراغ المناسبة للحركة ولتناثر الأشياء بشكل يعكس فوضويته ويترك التكهن بالمكان مفتوحا سواء عالم دالي الداخلي أو مرسمه ، كان على الركن الأيسر مكتب بطراز عريق كلاسيكي مهجور أغلب الوقت لكنه يقترب منه أحيانا بعدسته حتى يصل لارتقائه في النهاية بحركة زهو واستعلاء وانتشاء بالذات ، كما كان استخدام فكرة السلك المعلق بواسطة الداليين والممتد بينهما موفقا بما يوحي به من العلاقة الشائكة الحذرة مع الآخر والصلة الضعيفة وظلالها الخطرة ، أما الجرافيك من خلال شاشة عرض عرضت عليها لوحات دالي بشكل فني مبدع وكأنها ترسم الآن فكان إضافة لافتة وهامة ومميزة للعرض ، ليأتي الأداء الحركي والذي وفق فيه الجميع وكان الفنان محمد فوزي في أدائه الحركي خفيفا مرنا أفضل منه في أدائه التمثيلي الذي كان يحتاج ولوجا أكبر لشخصية دالي وروحه وإبرازا لها ، لكنه بدا مرتخي الجسم والتعبيرات في أغلب الأوقات بما لا يناسب هذا العنفوان والضجيج وحدة التعبيرات وتطرفها لدى دالي ، وقد برز أداء علاء النقيب في دور الشخصية الداخلية لدالي أو الواقعية وكان أداؤه التعبيري مناسبا ، أما منة الجمل في دور جالا حبيبة وزوجة دالي والتي أثرت كثيرا في حياته وشخصيته ومنعت المزيد من تطرفه وبدا من تصميم دورها الحركي انحيازها في الصراع لدالي المجنون أو الخيالي ، فقد كانت رشيقة الحركة الاستعراضية لكنها ضعيفة التعبير التمثيلي والصوتي .

من جهة أخرى وتماشيا مع الصبغة النفسية العامة للعرض جاء استخدام صوت خارجي حي يقبع أمام مقدمة المسرح مما يعني أنه يعد شاهدا أو صوت العمق الإنساني وكان يشكل بحد ذاته بأدائه مؤثرا صوتيا يدعم إحساس العمق والتعامل مع الداخل في بطء الأداء وشجنه وقد أداه بشكل وصوت جيد ملفت الفنان ماهر محمود ، والذي استخدم من خلال موقعه في أحد المشاهد مرآة تعكس صورة الجمهور وكأنها دعوة للنظر لأنفسنا فقد نفاجأ بالكثير ، هذا مع موسيقى مصاحبة للعرض مناسبة تعطي إحساسا بالتفاعل مع بطء يدعو للتأمل والغوص مناسب لمحتوى العرض ، وهناك عنصر شديد التميز هو الإضاءة فقد اختار سكوندو مساقطها ودرجاتها وكثافتها بحساسية متفهمة بشكل جيد للتعامل مع عمق نفس سواء في درجات الأحمر الوردي أو الأزرق النيلي أو الأصفر القاتم بهدوء فخلقت جوا نفسيا جاذبا يدعوك للانحصار فيه والانفصال عما قبله وكانك داخل نفسك ، لتحمل بذلك كل العناصر صبغة منسجمة أجيد إعدادها للجذب نحو العمق والإصغاء المتأمل لا يخل من شجن وإثارة ، لتبقى تجربة مشاهدة هذا العرض وإن كان بإمكانه مزيد من التحليق المتمكن إلا أنه يبقى في الذاكرة كحالة فنية نهمة مبشرة ومتميزة ، تشعر معها بأنه حيثما وجد الفن قتل المستحيل ، فالجنون ضيفه المفضل ، حتى أننا يمكننا أن نرى ضجيج "دالي" الصاخب شجنا يرقص أامامنا مع جنونه " وحيدا " .



   نشر في 25 ماي 2015  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا