إسأل نفسك - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

إسأل نفسك

إقرأ لترتقي

  نشر في 12 يونيو 2020  وآخر تعديل بتاريخ 13 نونبر 2022 .

إن التفوق السياسي والاجتماعي والعسكري والفني والبيئي والديني لأي دولة في العالم، متوقف على القراءة. فالأمم التي لا تقرأ محكوم عليها بالفشل على جميع المستوايات والأصعدة وسيكتب لها التخلف عن اللحاق بالركب الحضاري لا محالة.

إذا ما تأملنا في الدول المتقدمة، سنلاحظ أن جل أفراد شعوبها ــــ إن لم أقل كلهم ــــ باختلاف فئاتهم العمرية، مدمنون على القراءة في المنازل والمكتبات والحافلات والمحطات، بل حتى في المراحيض ــ شرف الله قدركم ــ فالتقدم لم يأت لدولهم صدفة، إنما أتى عن طريق المعرفة، ومفتاح باب هذه الأخيرة هو القراءة. فتعريف القراءة لغة ــــ حسب معجم المعاني الجامع، هو: "النطق بما هو مكتوب جهرا كان أو سرا".

يقول الفيروز آبادي في "القاموس المحيط" عند مادة القرآن " وقارأه مقارأة وقراء: دارسه، والقراء: الحسن القراءة، وتقرأ، وقرأ عليه السلام: أبلغه".

أما في الاصطلاح، نجد الكثير من التعاريف للقراءة، أذكر من بينها ـــ تعريف الدكتور حسين كامل بهاء الدين ـــ :"القراءة خبرة متراكمة على مر الأجيال تقدمت بها البشرية وتنورت بها الإنسانية وتواصلت بها قدرات البشر على مر العصور من جيل إلى جيل". وتعرف أيضا بــ إمكانيّة التعرُّف على الأحرف، والكلمات جميعها، ونُطقها بشكلٍ صحيح.

فالقراءة شمس من دونها نعيش في ظلام دامس كضرير لا يرى ولا يجد من يرشده وينير دربه بنور المعرفة، فلكي نعرف مثلا هويتنا علينا الإطلاع على التاريخ، ولولا القراءة والكتابة لما كان شيء إسمه التاريخ أصلا، ولمعرفة قيمة القراءة بشكل جلي يكفي أن نعرف أن أول ما أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي قوله تعالى : {إقرأ}، وكونها أول كلمات الله تعالى نزولا على رسوله صلى الله عليه وسلم ليس من باب الصدفة أو العبث، حاشاه تعالى عن ذلك وتعالى علوا كبيرا، إنما لما تحمله من أسرار لفهم الدنيا والدين لأجل الفوز بهما معا، فالمتعلم المعرض عن القراءة، هو إنسان فاقد للطموح ولا حظ له من دار الدنيا، يقول الأديب طه حسين: "فإذا أمر الله الإنسان بأن يقرأ فإنما يأمره بأن يطمح إلى الكمال، ويسعى إليه". ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : {قيدوا العلم بالكتابة.} ـــ رواه الحاكم وصححه الألباني ــــ فأمره صلى الله عليه وسلم بتقييد العلم حتى يحفظ ولا يضيع ويبقى للأجيال التي تأتي من بعدهم ليقرؤوه وينهلوا منه على قدر المستطاع ليستفيدوا منه، ويكونوا خير خلف لخير سلف، فأي كتاب جديد يقع في يد القارئ الشغوف هو بمثابة كنز كبير، يقول الحافظ ابن الجوزي: " إذا وجدت كتابا جديدا فكأني وقعت على كنز" كلام جميل يصدر من عقل واع لما في القراءة من خير وفير، فبالقراءة تعرف أحوال الأمم السابقة، وتتيح أخد العبرة منها، ويزيد الرصيد المعرفي لكل فرد قارئ من الناس، وتزيد معها أخلاقه وكذلك صفاته الحميدة، وسلوكه السوي المعتدل القويم الحسن، وتمكنه من السفر إلى أزمنة أخرى مع شخصيات مختلفة من أبطال وأساطير وحكايات وقصص، تمكنه من التفريق بين الواقع والخيال، بين الممكن والمستحيل، بين الحق والواجب، بين الصحيح والخطأ، ليصبح كل فرد قارئ من الشعب بمثابة دفعة كبيرة للأمام لشخصه ومجتمعه ووطنه، يقول أحد الأساتدة العارفين بحق القراءة: {كيف تعرف إذا لم تقرأ؟ إن المطبعة أم المعرفة: لها ثمانية وعشرون جنديا هم حروف من رصاص، تنفد إلى المعاني، فتفتح مغاليق الجهالة. وهذه الحروف تذوب في الكتاب، ثم ترسل إشعاعها عن طريق العين إلى العقل والقلب، فإذا الإشعاع نور الدنيا ولألاء الحضارات.}.

الإنسان من طبعه يحب أن يعمر في دنيا لألاف السنين، لأجل العيش أكثر والمعرفة أكثر، والقراءة تجعلك تعيش أعمارا كثيرة إضافة إلى عمرك، فالأديب عباس محمود العقاد كان يقرأ لأن حياة واحدة لا تكفيه، وهو يريد أن يجمع بين حياته وحياة المئات من الرجال العظام، أصحاب الفكر والتجربة. يقول العقاد: " إن ساعة من الحس والفكر والخيال تساوي مائة سنة أو مئات من السنين، ليس فيها إلا أنها شريط تسجيل لطائفة من الأخبار وطائفة من الأرقام.

كلا.. لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمرا في تقدير الحساب...وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب.."

فإن كانت القراءة قد أعطت للعقاد حياة أخرى، فإنها في الآن نفسه قد عرفت على آخرين بصديق صدوق، ألا وهو الكتاب، الذي يعد أنيسا للساهر، ومرشدا للناظر، وصديقا للمسافر.

يقول الجرجاني:

ما تطعمت لذة العيش حتى           صرت في وحدتي للكتب جليسا

ليس عندي شيء أجل من العلم            فلا أبتغي سواه أنيسا

ويقول إبراهيم اليازجي:

وأفضل ما اشتغلت به كتاب                  جليل نفعه حلو المذاق

ويقول أحمد شوقي :

أنا من بدل بالكتب الصحابا             لم أجد لي وافيا إلا الكتابا

ويقول أبو الطيب المتنبي:

أعز مكان في الدنى سرج سابح             وخير جليس في الزمان كتاب

ومع كل هذه المزايا الفريدة من نوعها، والحميدة في مضمونها، التي ذكرناها عن القراءة، نجد أن هناك عزوفا حادا للقراءة في العالم العربي، عزوفا لازم هذه الشعوب لمدة ليست بالهينة، حتى أضحى العزوف عن الكتاب بمثابة ثقافة نعرف بها وسط الشعوب القارئة المتقدمة، فقلة وعي أفراد الشعوب العربية بالقراءة وما يترتب عليها من مزايا وأيضا ضعف المناهج التربوية للحكومات في شأن التعليم، يجعلنا نقف في ذيل قائمة الأمم القارئة.

و هناك عدة دراسات تناولت نسبة المقروئية في الوطن العربي حسب ما جاء في مقال بعنوان” كم يقرأ العرب، و ماذا يقرؤون؟ ــ بصحيفة رصيف 22 الإلكترونية ــ نذكر من بينها:

ـــ تقرير التنمية البشرية لعام 2003م الصادر عن منظمة اليونسكو، الذي ذكر أن المواطن العربي يقرأ أقل من كتاب واحد بكثير، فكل 80 شخصا يقرؤون كتابا واحدا في السنة، بالمقابل يقرأ المواطن الأوربي نحو 35 كتاب في السنة.

ــ تقرير آخر لليونسكو عام 2008م كشف أن العرب مجتمعين من المحيط إلى الخليج يقرؤون ربع صفحة في العام لكل فرد، مقارنة بالفرد الأمريكي الذي يقرأ 11 كتاب في العام، و البريطاني 7 كتب.

ــ تقرير التنمية الثقافية لعام 2011م الصادر عن مؤسسة الفكر العربي، ذكر أن الفرد العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنويا، بينما يقرأ الأوربي بمعدل 200 ساعة سنويا.

إن كنا لا زلنا على هذه الحالة التي جاءت في التقارير مند 2011 إلى الأن فإن مستقبلنا كشعوب عربية مصيرنا إلى الزوال محتوم. ما معنى ألا نقرأ؟ يعني أن تنزع منا هويتنا دون أن ندري، ونفقد ثقافتنا وتراثنا دون أن نشعر، وتعمر أرضنا بغيرنا لأننا لا نستحقها، فسنة الحياة تقتضي بأن الأرض تعمر بالذي يستحق تعميرها. وكما كان يقول أحد أساتذتي الأفاضل: مادمنا لا نقرأ حتى الطبيعة لن ترحمنا. وما يجري اليوم للغة العربية في بلدنا المغرب من تهميش ممنهج بتمرير قانون إيطار في محاولة إبدال اللغة العربية بالفرنسية بواسطة اللوبي الفرونكفوني لخير مثال.

وللأسف حتى تلك النسبة للمقروئية في الوطن العربي لا تستفيد الأمة إلا من نسبة ضئيلة من داخلها، لأن أغلب القراء في الأوطان العربية يتجهون إلى القراءة الإستهلاكية الغير المنتجة، كأن يقرأ الشخص جل الكتب التي تتحدث عن الأخلاق والقيم ولا تلمس في سلوكياته أي شيئ مما يقرأه، أو يقرأ العشرات من الكتب تتعلق بالمنهج وتجده فوضويا في حياته، أو أن يقرأ في السياسة الشيء الكثير بينما تجده عازفا عن ممارسة السياسة في أرض الواقع، وزيادة على غياب نتائج القراءة على مستوى السلوك والأخلاق، نجد أيضا غياب الإنتاج العلمي من المقالات والمؤلفات من فئة مثقفة عريضة وخصوصا في المغرب، هذه الفئة تكتفي فقط بالقراءة الإستهلاكية لأجل إنتعاش الدهن ومتعته، دون أي غاية أو مقصد من القراءة.

اليوم بدل أن نسائل الأمة بخطاب عام لا يهتم به أحد، وجب أن يسائل كل شخص فينا نفسه، ماذا قرأ ؟ وكم قرأ؟ وهل استفاد مما قرأ وأفاد؟ وإلى أي حد استطاع أن يترجم ما قرأه إلى سلوكه اليومي؟ هي أسئلة موجهة لي ولك وله ولها، إسأل نفسك.

قلم: ياسين الكولالي



   نشر في 12 يونيو 2020  وآخر تعديل بتاريخ 13 نونبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا