اليوم الأول في المدرسة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

اليوم الأول في المدرسة

ورقة وقلم أزرق

  نشر في 06 شتنبر 2023  وآخر تعديل بتاريخ 06 أكتوبر 2023 .

قبل أيام وصلتني رسالة عبر الواتساب وكان المرسِل إدارة المدرسة، الرسالة حملت معها نسخة من ورقتَيْ اللوازم المدرسية التي سيحتاجها أبنائي خلال سنتهما الدراسية الجديدة، طبعاً كل ورقة بحجم A4 عن آخرها مليئة مكتوب بعضها باللغة العربية وكثير منها بلغات أجنبية. فتذكرت أيام دراستنا وعبق ذكريات جيلنا الذهبي. سألتني ابنتي : كيف كنتم تستقبلون الموسم الدراسي الجديد أنذاك ؟!

كنا نقضي عطلة صيفية طويلة ومملة نهايتها بعد أن استنفذت منا كل ما يصلح أن يسمى نشاطاً صيفياً، لذا كنا نستقبل العام الدراسي الجديد بشوق كبير وحنين لامتناه للمدرسة.. ليس للأقسام فقط بل نشتاق كذلك لساحة المدرسة وأشجارها ورائحة الطاولات الخشبية، نعم كنا نستقبل العام الدراسي بكثير من الحماس وقليل من الأدوات.. فلم نكن أسخياء مثلكم اليوم ترحبون بعامكم الجديد بالمقررات الكثيرة والدفاتر الكبيرة والأدوات المتنوعة حتى أن الواحد منكم لا يكاد يستطيع حمل محفظته على ظهره ولا تستحمل عظامه الطرية أرطال تلك اللوازم.

ماذا عن يومكم الأول ؟ تسألني ابنتي وهي تطالع ورقة لوازمها المدرسية على هاتفي.

تنهدت بعد أن عدلت من جلستي ورسمت حروف ابتسامتي وأجبت ابنتي : اليوم الأول في بداية كل عام دراسي كان يوماً مميزاً بل كان عيداً بِحق، إذ كان يحتضن طقوساً أجزم أن كل المغاربة من أبناء جيلي أحيو تلك الطقوس أو بعضها على الأقل.. نلبس أحسن ما جاد به علينا آباؤنا من الثياب، نشتري قلماً جافاً أزرق اللون غالباً ما يكون من ماركة "بيك" التي كانت بمثابة الراعي الرسمي لتمدرسنا أو ربما لم تكن تتوفر في السوق أنذاك إلا أقلام "بيك"، ننْتف ورقة بيضاء من أحد دفاتر العام الذي مضى، نطوي الورقة على أربعة حتى تُكون زاوية قائمة بالتمام والكمال، نضع رأس القلم حول الورقة مثل خُطاف ونضعهما معاً في الجيب الخلفي لسروال "الدجينز".. ثم نمضي.

نمضي إلى المدرسة نَمخُر عباب أزقة القرية الضيقة رفقة أصدقاءنا وزملاء الدراسة، نمضي مرة خفيفي الخطى ومرة نركض ونتسابق ومرة نمشي مهرولين حتى نصل إلى ساحة المدرسة التي يجتمع فيها التلاميذ والتلميذات قادمين من كل فج عميق.. داخل الساحة تزداد الجموع شيئاً فشيئاً فيزداد معها لعب الأطفال وجريهم وتتعالى الأصوات والضحكات ولا يقطع كل ذلك الصخب إلى صوت صافرة المدرسة الذي كان يشبه نعيق صافرات السجون في الحالات الطارئة..

ندلِف بأجسامنا الصغيرة إلى أقسامنا الكبيرة، يدخل المعلم ونقف له تنفيذاً لأحكام الفصل الأول من البيت الشعري لأحمد شوقي "قم للمعلم وفِّه التبجيلاَ"، يرحب بنا ثم يخُط بأُصبُع الطبشور الأبيض على وجه اللوح الأسود ما سنحتاجه من لوازم خلال العام الدراسي، وبدورنا ننقل ما خطته يد المعلم ملطخين وجوه أوراقنا البيضاء بحبر أقلامنا الزرقاء افتتاحاً وإيذاناً ببداية العام الدراسي الجديد.

ثم.. ثم ينتهى اليوم الأول من العام الجديد قبل أن يبدأ، ونعود أدراجنا إلى بيوتنا بعد أن نقضي ما تبقى من لحظات ذلك اليوم، أو أغلب لحظاته كي أكون صادقاً، في المرح وسط فضاء المدرسة الرحب والتعرف على زملاء الفصل واكتشاف الوافدين الجدد.. نعود إلى بيوتنا ونقدم بفرحٍ ورقة اللوازم لآبائنا وهي لا تحمل في طياتها إلا بضعة سطور..

صمتُّ هنيهات، واخترق صوت ابنتي لحظة صمتي تسألني وقد قرأتْ لتوها نصف ورقة لوازمها على ما يبدو : ما هي اللوازم التي يطلبون منكم إحضارها ؟

شبكت بين أصابع يداي وقلت : هي بالكاد لم تكن تتجاوز عدد أصابع اليدين مجتمعة، الأمر كان في غاية البساطة.. كانت لدينا ثلاث مواد أساسية هي اللغة العربية والرياضيات واللغة الفرنسية..

- كل مادة نحتاج فيها دفتران واحد من فئة 50 ورقة والآخر من فئة 24 ورقة،

- قلم أزرق وقلم أخضر يمثلان لون السماء ولون الطبيعة.. لكن مهلاً القلم الأزرق موجود وبه نخط باقي اللوازم إذن نكتب فقط صاحبه الأخضر،

- قلم رصاص يحمل على ظهره ممحاة تستر أخطاءه،

- أقلام ملونة لم تكن تكفينا لتعبئة أشرطة قوس قزح السبعة،

- منجرة مهمتها شحذ همة قلم الرصاص وأقلام التلوين الستة،

- أصبع لصاق كان أقرب إلى ماء ممزوج بالسكر منه إلى لصاق،

- ثم مسطرة بدون فلسفة..

أضفت - جواباً على سؤال غير لفظي بدا من نظرتها - أعني مسطرة كيفما كان لونها وشكلها سواء كانت مستطيلة أو مثلثاً أو نصف دائرة أو أي شيء يصلح أن يجعل خطوطك مستقيمة حين يطلب منك المعلم أن تضع خطاً تحت التاريخ أو خطين تحت عنوان الدرس واسم المادة.

استغربت ابنتي من كل ما سمعت وجعلت تنتقل بعينيها تارة تنظر إلي وتارة تنظر إلى ورقتها وحجم ما هو مدون عليها، استغربَت كيف كان لنا الحق في الشعور بالسعادة ولوازمنا كانت معدودة ! لا فيها آلة حاسبة ولا معداداَ، فما الذي يسُرني ويدفعني للإشادة بأبناء جيلي والقول إنهم أصبحوا في مواقع الريادة، كيف ذلك وموادنا الدراسية كانت جداً محدودة ! ثم زادتني سؤالاً كالعادة : كيف كنت تقضي الليلة الأولى من الموسم الجديد حين تضع رأسك على الوسادة ؟

وضعت يدي على كتِف ابنتي وطلبت منها أن نتمشى قليلاً فإن في المشي صحة وإفادة وقلت لها متعمداً التوكيد والإعادة : حين أصل إلى المنزل وأنا في قمة السعادة، أقدم ورقة اللوازم لأبي بعزم وإرادة، أضعها أمامه ولو كان في عبادة، فآمل أن يسلِّم سريعاً ويطوي السجادة، ليطالع ما في الورقة من لوازم معدودة..

ثم أنتظر بشوق منقطع النظير الحصول على زادي العلمي دون تأخير، أنتظر متى يحين صرف محتوى تلك الورقة اليتيمة ذات الزاوية القائمة إلى دفاتر وأدوات قيمة وكراسات مليئة بالإفادة.. أتدرين، كمن حصل على ورقة 100 دولار مساء الجمعة وينتظر بزوغ فجر الاثنين بحماس ولهفة كي يتمكن من تحويلها إلى أوراق عدة من فئة 100 درهم ودراهم معدودة زيادة..

النوم في تلك الليلة يا حبيبتي يكون في إجازة، يغادرنا ويسافر إلى مراكش وقيل تازة، يقضي ليله في سهر وسمر نشِطاً مفازاَ، تاركاً أعيننا تسبح في الظلام وعقولنا تسرح في الأحلام وأذهاننا تطرح ألف سؤال وسؤال :

متى يا ليل يحين موعد صياح الديَكة ؟

متى يبزغ الفجر ليستيقظ أبي ويترك الأريكة ؟

متى يتنفس الصبح وتبتسم الشمس كي يستقل حافلة البلدية المهترئة ويذهب في اتجاه المدينة البعيدة عن البلدة ؟ إذ لم تكن في قريتنا لا مكتبة ولا قرطاسية.

وهل ستفتح المكتبات أبوابها باكراً لعرض اللوازم المدسية ؟

يا ترى، كيف ستبدو الأدوات الجديدة ؟

ما ألوان الدفاتر وأشكال الكراسات الموجودة ؟

كيف سيكون غلاف كتاب القراءة ؟

كم نصاً سيحتوي من شعر الطفولة وقصص البراءة ؟

ماذا عن كتاب الرياضيات ومسائل البراعة ؟

يا ليل كم أشتاق لرائحة الكتب الحديثة الطباعة..

ثم.. هل سيُحضر لي أبي هذه السنة محفظة ألِقة ؟

وهل سأحصل في هذا الموسم على مقلمة أنيقة ؟

أم أن هاتين الأخيرتين غير مدونتان رسمياً في الورقة ؟!


  • 1

  • محمد أيت سدي امحمد
    ماجستير إدارة نظم المعلومات.. رئيس تحرير مجلة التميز.. مدرب في تنمية المهارات ومرافقة المؤسسات.. معد برامج تدريبية تربوية وقيادية
   نشر في 06 شتنبر 2023  وآخر تعديل بتاريخ 06 أكتوبر 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا