عن الذاكرة وقدرتنا على استرجاع المعلومات - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

عن الذاكرة وقدرتنا على استرجاع المعلومات

  نشر في 05 يناير 2022  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

غالبا ما نتساءل عن كيفية تذكر الأشياء بسرعة، نتعجب من قدرة شخص ما على استحضار معلومات كان قد مضى على حفظها الزمن الطويل، نتساءل أيضا عن كيفية عمل الذاكرة، وعن الكيفية التي يتم بها تخزين المعلومات في أدمغتنا، البعض منا يرى الذاكرة كيانا غامضا لم نبلغ كنهه بعد، بينما يرى الآخر أن الأوْلى بنا أن نحاول استكشافها كي نستطيع تحسين وظائفها وقدراتها.

كيف تعمل وظائف الذاكرة؟ وكيف تتم عملية التذكر؟ هل يمكن تحسين عمل الذاكرة، بحيث يتم استحضار المعلومات أفضل من ذي قبل؟ أم أن المسألة نسبية وغير قابلة للتحسن؟

نستعرض في هذا المقال تفاصيل تكشف لنا شيئا من ذلك.

تعتبر الذاكرة وظيفة - أو عدة وظائف بالأصح - ضرورية جدا كي نقوم بالأشياء من حولنا، بدءا من تعلم المشي والكلام، إلى تعلم الأشياء وممارستها، إلى تكوين العلاقات الإجتماعية والإستفادة من خواصها، وحتى كي نميز بين الشيء وضده.

فهي الركيزة الأساسية لكل هذه المحدَّدَات، وبدونها لن نستطيع أن نقوم بأي فعل في حياتنا المعيشة.

ظهرت أبحاث الذاكرة منذ نهاية القرن التاسع عشر على يد عالم النفس الألماني هيرمان إبنجهاوس وتحديدا في سنة 1885 من خلال أعماله ومألفاته وخصوصا مصنفه المعنون ب "الذاكرة" ، قام إبنجهاوس بدراسات تجريبية حول الذاكرة وقدرتها على الإسترجاع.

في كتابه "الذاكرة" وبعد أن قام إبنجهاوس بأبحاث على نفسه وعلى الآخرين عن طريق تجربته الشهيرة "بالمقاطع عديمة المعنى" توصل إلى أن البشر يفرضون معنى ما على الأشياء التي يحفظونها في الذاكرة، حتى ولو كانت عديمة المعنى، وهذا مايمكِّننا من استدعاء المعلومات بشكل أسهل فيما بعد.

ولكي نستوضح معا كيفية عمل الذاكرة ووظائفها وهل يمكن لنا أن نستدعي الأشياء من أدمغتنا بكل يسر يجب أن نستشير علم الأعصاب وعلم النفس كلاهما حول مستويات عملية التذكر، ومكونات الذاكرة ووظائفها.

قديما تشكل عند أفلاطون أن الذاكرة أثناء عملية معالجة المعلومات تمر بثلاث مستويات رئيسة:

 عملية التشفير:

وهي عملية استيعاب المعلومات واكتسابها، تتسم هذه المرحلة من مستويات معالجة المعلومة بالأهمية نظرا لكوننا نتعرض خلالها للتشتت، وبالتالي يجب مراعاتها وتوفير البيئة المساعدة على تشفير المعلومات بفعالية.

• عملية التخزين:

وهي المرحلة الثانية من مراحل معالجة المعلومات في الذاكرة، وتعني حفظ المعلومات وتخزينها بدقة ولفترات زمنية طويلة في ذاكرتنا طويلة الأجل.

• عملية الإسترجاع:

وهي العملية الأهم في مراحل معالجة المعلومات، وهي التي تُخول لأدمغتنا الوصول للبيانات المحفوظة في ذاكرتنا واستدعائها متى ما احتجنا لذلك.

في مقال تم نشره من طرف عالم النفس فيرغوس إم كريك وعالم التشريح روبرت بوكهارت قررا فيه أن قدرتنا على استرجاع المعلومات تعتمد في الأساس وبشكل أولي على قدرتنا على تعميق المادة المراد استرجاعها أثناء عملية التشفير، فمثلا عندما نريد حفظ أبيات من الشعر، أو مقاطع من قطعة نثرية ما، فإن قابلية استدعائها بسهولة فيما بعد تعتمد على قوة تفكيرنا، وتعمقنا، وإسقاطنا المعنى، واهتمامنا العميق بحفظ تلك الأبياء الشعرية، فحين تُوَّلي اهتماما مبالغا فيه بالمعلومة فإن قابلية استرجاعها تكون أسهل.

يحيلنا هذا التقرير إلى أن عملية التشفير وعملية الإسترجاع مترابطتان، وبين هذا الترابط الوطيد تتوسط عملية التخزين، التي تتميز بكونها الوعاء الرئيس الذي نودع فيه المعلومات وأيضا نستخرجها في وقت الحاجة.

ولكي نقطع شوطا في فهم عمل وظائف الدماغ علينا أن ننظر إلى الذاكرة بوصفها كيانا متعدد المكونات، وليست شيئا أُحاديا.

تنقسم الذاكرة إلى ثلاث مكونات أساسية، يتم فيها تخزين المعلومات في الدماغ بدرجة متفاوتة.

▪︎ المُكون الأول: الذاكرة الحسية:

في ستينيات القرن العشرين أجرى عالم النفس المعرفي جورج سبيرلنغ عدة تجارب ساعدت على ظهور الدليل الموضوعي على ماتمت تسميته "بالذاكرة الحسية" أو "مخزن الحس" فاثبتت تجاربه أن الذاكرة تعمل تحت مستوى الوعي، فهي تستقبل المعلومات من خلال الحواس وتحتفظ بها لمدة قصيرة تقدر بثانية واحدة، كي تقرر بعد ذلك تحويل هذه المعلومات إلى الذاكرة قصيرة الأجل، فهي ذاكرة مؤقتة تصل بين الحواس والذاكرة الأولية.

 ▪︎ المكُون الثاني: الذاكرة قصيرة الأجل:

وتسمى أيضا "بالذاكرة الأولية" وهي التي يمكننا من خلالها الإحتفاظ بعدة عناصر تقدر بسبع عناصر تزيد بعنصران أو تنقص، تم استقبالهم بشكل سريع من الذاكرة الحسية.

يتم تصفية العناصر القادمة للذاكرة الأولية بواسطة الدماغ، فمن بين العناصر السبع يختار الدماغ أكثرها أهمية ليتم إرسالها مباشرة للذاكرة طويل الأجل، وماتبقى من عناصر يتلاشى بسرعة فائقة لتحل محله عناصر أُخرى، وهكذا دواليْك.

▪︎ المُكون الثالث: الذاكرة طويل الأجل:

والتي يطلق عليها أيضا "الذاكرة الثانوية" وهي كيان غير محدود تقريبا، يمكنك من خلاله أن تحفظ عددا غير متناهي من البيانات والمعلومات.

يقول عالم وظائف الأعضاء بيوتر أنوكي أن "الدماغ البشري بوسعه حفظ كراسة من خمسين أو ستين صفحة في الثانية، وبعد ثمانين أو تسعين سنة يقول لك الدماغ هل من مزيد".

تتم عملية تخزين المعلومات في الذاكراة طويلة الأمد عندما نوَّلي هذه المعلومات اهتماما بالغا ونفكر فيها بشكل مكثف، فكلما تمرن المرء على المعلومة وقام بتكرارها تستقبل الذاكرة إشارة من الدماغ بأن عليها تخزين وتثبيت المعلومات فيها بشكل دائم.

وهذه الفكرة بالذات سلط عليها الضوء مارسيل بروست عندما كتب يقول: (سرعان ماننسى مالم نفكر فيه بعمق).

ولكي تمارس الذاكرة دورها بفعالية يجب أن تنشط جميع هذه المكونات بالتوازي وباتساق تام، فلا يغني أحدها عن الآخر.

مالذي يخبرنا به العلم حول النسيان؟

هذا بخصوص عملية التذكر، ماذا إذا عن النسيان؟ مالتفسير الذي يقترحه العلم بخصوص تعرض الذاكرة لفقدان بعض المعلومات وتعرضها للزوال؟

رأيان مشهوران، يذهب الرأي الأول إلى أن الذاكرة تضمر وتذبل كما الأشياء في البيئة الواقعية، وأن المعلومات يتم فقدانها مع ذبول وتآكل الذاكرة وتتم بذلك عملية النسيان.

بينما يرى أصحاب الرأي الآخر أن العملية المادية لتآكل الذاكرة غير صحيحة وإنما هي عملية تداخل تحدث بسبب تصادم واختلاط بعض الأفكار والذكريات مع بعضها الآخر، وجراء هذا الإختلاط والتداخل تتلاشى بعض المعلومات من الذاكرة وتفنى.

حسنا إذا؛ بعد أن تطرقنا لطرق عمل الذاكرة وكيفية عمل وظائفها الرئيسة، آن الأوان أن نتساءل؛ كيف يمكننا في خِضم هذه المشتتات والملهيات، وفي أثناء عدم قدرة أحدنا على الإلمام بشكل كلي بأسرار الذاكرة وطرق تنشيطها، كيف يمكننا أن نحسِّن عملية التعلم وتشفير المعلومات واسترجاعها؟ بأي الطرق نقلص عملية النسيان؟ كيف نساعد الذاكرة على الإحتفاظ بالمعلومات واستدعائها متى ما أردنا؟

بالإستناد إلى المعطيات العلمية التجريبية سنورد عدة نصائح تساعد في كل من ذلك:

1- اكتساب اللغة:

ثمة العديد من الدلائل والدراسات تثبت أن اكتساب اللغة وتطويرها يساعد بشكل رئيس في زيادة الإتصالات الدماغية، وأن تعلمها وممارستها يزيد من نشاط وظائف الذاكرة فيما بينها ويقوي اللدونات العصبية.

في دراسة حديثة نُشرت في مجلة Alzheimer Disease & Associated Disorders

اكتشفت الباحثة والأخصائية النفسية إلين بياليستوك من جامعة يورك، أن الثنائية اللغوية أي اكتساب لغة أخرى مع اللغة الأم يساعد بشكل كبير في محاربة مرض الخرف أو الزهايمر ويقلل من الإصابة به، كما يثير عمل الروابط العصبية ويقويها، وبالتالي يقوي الذاكرة وعملية الحفظ.

2- التكرار والتمرن:

في تجربة هيرمان إبنجهاوس على نفسه وعندما كان يحفظ مقاطعه الخالية من أي معنى، اكتشف أن هناك علاقة طردية بين عدد محاولات الحفظ وبين كم المعلومات التي تم تخزينها، فعندما كان يقوم بالتمرن والتكرار كانت المقاطع قيد التجربة يتم حفظها بشكل أكبر، فيتضح لنا أنه كلما تمت ممارسة المعلومة وترديدها بشكل أكبر تتم عملية ترسيخها في الذاكرة بشكل أعمق وأقوى.

وقد أورد الخطيب البغدادي في ( الجامع 1 - 238 ) عن علقمة أنه قال: ( أطيلوا ذكر الحديث لا يدرُس ) أي لا يُنسى.

يمكن تجربة عمليتي التكرار والتمرن بشكل متقطع، أي تذكر المعلومة وممارستها على مدار فترات زمنية متباعدة، كي تكون هناك تعزيزات مباشرة للدماغ تخبره بأهمية المعلومة ليقوم هو بدوره بحفظها وتثبيتها في الذاكرة طويلة الأمد.

3- خلق بيئة مشابهة للتي تمت فيها عملية التعلم:

تميل التجارب إلى أنه كلما كانت البيئة التي يتم فيها استرجاع المعلومات مشابهة لتلك التي تم فيها اكتسابها تكون عملية التذكر أيسر. فعندما تكون محاطا بهدوء البحر ونسيمه أثناء تعلم المعلومات فإن استرجاعها فيما بعد يكون أسهل عندما تكون في نفس البيئة أو بيئة مشابهة لها.

4- ربط المعلومات فيما بينها:

تكشف لنا العديد من الأبحاث أنه كلما كانت المعلومات المقدمة لنا مشابهة أو قابلة للربط مع أخرى قديمة تكون عملية استرجاعها أسرع، فعندما تكون هناك ألفة بين دماغنا وبين المعلومة المقدمة إليه يكون انحيازه لتذكرها أعلى.

لذا ينبغي أثناء عملية تشفير المعلومات أن نحاول ربطها بانفاعالاتنا، وبمعرفتنا العامة عن العالم، بأشياء أخرى لها صلة شبيهة بتلك المعلومات، ينبغي أن تكون هناك شبكة اتصال كلي بين المعلومات كي نستطيع استدعاءها عن طريق تذكر أشياء قريبة أو متصلة بها.

نستنتج من هذا أن تنشيط الذاكرة وتحسين وظائفها يتطلب عزما ومثابرة وتطبيقا، سنجد العديد من الأدوات والتقنيات التي تُساعدنا في ذلك، ينبغي فقط أن يصِح لنا العزم ولا ينثَني، وأن نقرأ، ونمارس، ونكتسب اللغة، ونعقد الروابط والصِّلات فيما بين المعلومات، وبالقليل من الإستمرارية والمثابرة سنلحظ الفرق يتضح شيئا فشيئا.


  • 2

  • محمد لمرابط
    كاتب محتوى، دارس جيد للأدب والفلسفة، عاشق لعلم النفس والبحث في تفاصيله، أكتب المحتويات القيمية والتسويقية والأدبية.
   نشر في 05 يناير 2022  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

Isselmou abdllahi منذ 2 سنة
جميل جدا ومفيد ...
التكرار والتمرن من أهم الأشياء التي تساعد على استرجاع المعلومات في الوقت المناسبة وكذا ربط المعلومات التي نريد حفظها في الذاكرة طويلة المدى بما يساعد على تذكرها

0

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا