التفاهةُ...نظامٌ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

التفاهةُ...نظامٌ

عمر بن عبد الله الأنصاري

  نشر في 22 يناير 2023  وآخر تعديل بتاريخ 01 نونبر 2023 .

قديمًا، قسَّمَ جمالُ الدين أبو الفرج عبدُ الرحمن بن عليّ بن محمد الجَوْزيّ (ت٥٩٧هـ) الناسَ ثلاثةَ أقسامٍ: عُقلاءُ أذكياء، وظِرافٌ متماجنون، وحَمْقى مغفَّلُون، وألَّفَ في كلِّ فئةٍ كتابًا يحملُ أخبارَهم ونوادِرَهم. وكأنَّ ثُلُثَ النَّاسِ من ذوي العقولِ الراجِحَة، والمناقبِ الواضحة، وهي قسمةٌ لا يشهدُ بها الواقعُ في القديمِ أو الحديث، ويقيني أنَّ نسبَة العقلاءِ لا تكادُ تُجاوِزُ الواحدَ في المئة، انطلاقًا من قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «النَّاسُ ‌كَإِبِلٍ مِئَةٍ، لا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً»، وقد سُئِلَ أحدُ البَهاليلِ: أتعرفُ عددَ مَجانين بلدِك؟ فقال: هذا شيءٌ يطولُ، ولكنِّي أعرفُ عددَ عُقَلائِه!

ولمْ يكنْ إيرادُهُ لنوادرِ غيرِ الأذكياءِ بغرضِ اشتهارِ كتابهِ، أو التشهيرِ والسُّخريةِ من أصحابِ تلكَ النَّوادرِ، فقد حدَّد ثلاثةَ أهدافٍ نبيلةٍ في مقدمة كتابه في نوادر الحمقى والمُغفَّلين، أولُها: أنَّ العاقلَ إذا سمعَ أخبارَهم عرفَ قَدْرَ ما وُهِبَ له ممَّا حُرِمُوه، فحثَّهُ ذلك على الشُّكْرِ.

وثانيها: أنَّ ذكر المُغفَّلِين يحثُّ المُتيقِّظَ على اتقاءِ أسبابِ الغفلة، إذا كان ذلك داخلًا تحتَ الكَسْبِ. وثالثها: أنْ يُرَوِّحَ الإنسانُ قلبَهُ بالنظرِ في سِيَرِ هؤلاءِ المَبْخُوسين حظوظًا يوم القسمة، فإنَّ النفس قد تملُّ من الدُّؤوب في الجدِّ، وترتاحُ إلى بعضِ المُباح من اللَّهْوِ.

واليومَ، تحوَّلَتِ التفاهةُ إلى صناعةٍ كبرى، تقومُ عليها مؤسَّساتٌ نافذةٌ، ولها آلياتٌ شيطانيَّةٌ تستقطبُ جموعَ التافهين، وتحمِلُهم طوعًا أو كرهًا على أنْ يُولُّوا وُجوهَهُم شَطْرها، فترفعَ خَسِيسَتَهم، وتُتمِّمَ نَقيصَتَهم، وتُجْنِيَهمْ أرباحًا طائلةً، فتتركَ الألبابَ حائرةً، وتُصَيِّرَ العالِمَ النِّحْريرَ زِنْدِيقًا، ممَّا جعلَ القُبْحَ والرَّداءةَ، والسَّطْحِيَّةَ والتَّفاهةَ، والرَّكاكةَ والسَّذاجةِ، وقُلْ ما شئتَ من مُرادفاتٍ غزيرةٍ في الحقلِ الدَّلاليِّ للانحطاطِ والابتذالِ، عنوانًا بارزًا في هذا الزَّمنِ الرَّديءِ، فلا تملكُ إلَّا أنْ تُردِّد في صمتٍ وإكبارٍ قولَ الصَّادقِ المصدوق صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ، حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالدُّنْيَا ‌لُكَعُ ‌ابْنُ ‌لُكَعٍ».

ووصفُ هذه الصِّناعةِ الجهنميَّةِ بالتفاهةِ ليس من عندي، بل هو تعبيرُ الفيلسوفِ الفرنسيِّ الكنديِّ: آلان دونو (Alain Deneault) أستاذِ الفلسفةِ والعلومِ السياسيَّةِ في جامعةِ كيبيك (Quebec) في كندا، والمعروفِ بمعاداتِهِ للرأسماليَّةِ الغربيَّةِ المُتوحشّةِ، حيث ألَّف كتابًا بالفرنسيَّة عنوانه: نظام التفاهة (La médiocratie) عام 2015م، وقد ترجَمَتْه إلى العربيَّةِ الدكتورةُ الكويتيَّةُ: مشاعل عبد العزيز الهاجريّ، الأستاذةُ في كليَّة الحقوقِ، بجامعةِ الكويت، ونُشِرَ في دار "سؤال" في بيروت عام 2020م.

وقدْ لخَّصَتِ المترجِمَةُ فكرَتَهُ المحوريَّةَ بقولها: «نحنُ نعيشُ مرحلةً تاريخيَّةً غيرَ مسبوقةٍ، تتعلَّقُ بسيادةِ نظامٍ أدَّى تدريجيًّا إلى سيطرةِ التافهينَ على جميعِ مفاصلِ نموذجِ الدَّولةِ الحديثةِ. لذلك؛ عبر العالم، يلحظُ المرءُ صعودًا غريبًا لقواعدَ تتَّسِمُ بالرّداءةِ والانحطاطِ المِعْيارِيِّيْنِ: فتدهورتْ متطلباتُ الجودةِ العاليةِ، وغُيِّبَ الأداءُ الرَّفيع، وهُمِّشتْ منظوماتُ القيم، وبرزتِ الأذواقُ المُنْحطَّةُ، وأُبعدَ الأكْفاءُ، وخَلَتِ السَّاحةُ من التَّحدِّيات، فتسيَّدتْ إثرَ ذلك شريحةٌ كاملةٌ من التافهين والجاهلين وذوي البساطةِ الفكريَّةِ، وكلُّ ذلك لخدمةِ أغراضِ السُّوق بالنهايةِ، ودائمًا تحت شعاراتِ الديمقراطيَّةِ والشعبويَّةِ والحريَّة الفرديَّة والخيار الشخصيّ، حتَّى صار الأمر يُذَكِّر بما كان مونتسكيو (Montesquieu) يُحذِّرُ منه من وجوبِ صَوْنِ الحريَّةِ عن الابتذالِ عندما قال: إنَّ ممارسةَ الحريَّة من قِبَلِ أكثرِ الشُّعوبِ تَمَسُّكًا بها تَحْمِلُني على الاعتقادِ بوجودِ أحوالٍ ينبغي أنْ يُوضَعَ فيها غطاءٌ يسترُ الحريَّةَ، مثلما تُسْتَرُ تماثيلُ الآلهة».

وقد بدأ الكاتبُ كتابَهُ بهذه المقدمةِ النَّاريَّةِ: ضعْ كُتُبَك المُعقَّدَةَ جانبًا، فكتبُ المُحاسبةِ صارت الآن أكثرَ فائدةً، لا تكنْ فخورًا، ولا روحانيًّا، ولا حتَّى مرتاحًا؛ لأنَّ هذا يمكنُ أنْ يُظهِرَكَ بمظهر المغرور. خفِّفْ من شَغَفِك؛ لأنَّه مُخِيفٌ، وقبل كلِّ شيءٍ لا تُقدِّمْ لنا فكرةً جيِّدةً من فضلك، فآلةُ إتلافِ الورقِ مَلْأى بها سلفًا... لقد تبوَّأ التافهون موقعَ السُّلْطةِ!

والكتابُ كلُّه يُدندِنُ حولَ فكرةٍ مِحوريَّةٍ خُلاصتُها أنَّ التَّفاهةَ اليومَ ليستْ سُلوكًا فرديًّا كما كان قديمًا، حيث كانتْ نشازًا وخروجًا عنِ السِّياقِ العامِّ القائمِ على الجدِّ والصَّرامةِ، وإنَّما هي نظامٌ مُمَنْهجٌ تقومُ عليه قوًى كُبْرى، لها أذرُعُها النافذةُ في كلِّ المؤسَّسات؛ ممَّا سمحَ للتافهينَ بتصدُّرِ المَشْهدِ، بل صاروا رموزًا يُشارُ إليهمْ بالبنانِ.

وقد رصدَ بعضُ المُحلِّلينَ أنَّ صرخةَ "دونو" بدأتْ تُؤْتِي ثِمارَها، وتَلْقَى تجاوُبًا في الغربِ والشرقِ على حدٍّ سواءٍ، حيثُ ظهرتْ في الآونةِ الأخيرةِ لافتاتٌ كُتِبَ عليها: "توقَّفْ عن جعلِ الناسِ الأغبياءِ مَشْهورين"، فالدَّفْعُ بالتافهين إلى الواجهةِ، يُعَدُّ جريمةً في حقِّ الأجيالِ النَّاشئةِ.

وختامًا، فلستُ في حاجةٍ إلى تأكيدِ وترديدِ القولِ بأنَّ مكانةَ الشخص لم تكنْ يومًا بعددِ المتابعينَ، وأنَّ قيمةَ الفكرةِ لم تكنْ يومًا بعدد المشاهداتِ، وحسبنا أنَّ من أنبياء اللهِ مَنْ يأتونَ يومَ القيامةِ، وليس معهم تابعٌ واحدٌ، وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطَ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلَ، وَالرَّجُلَيْنِ، وَالنَّبِيَّ ‌وَلَيْسَ ‌مَعَهُ ‌أَحَدٌ...»، ولم تكنْ قلَّةُ المُتابعةِ بغاضَّةٍ من مكانتهم، ولا طاعنةٍ في رسالتهم، ولكنَّها ثقافةُ التفاهةِ والابتذال، التي أصابت الموازينَ بالاختلال، والعقولَ بالاعتلال، وحملتْ كثيرًا من العُقلاءِ على الاعتزال، ولله درُّ أبي الطيِّب المتنبِّي (ت354هـ) إذ يقول:

    لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ يُسْتَطَبُّ بِهِ 

 إِلَّا الحَمَاقَةَ أَعْيَتْ مَنْ يُدَاوِيهَا




  • عمر بن عبد الله الأنصاري
    كاتب، وقارئ، شغوف بالكلمة المتجددة، والموضوعات الشيقة ذات الطرح النادر، أرحب بفضاءات المعرفة التي تنادي برفع الهمم، وترسيخ قيم المعرفة، وتؤسس لعصر اللغة العربية الذي اندثر
   نشر في 22 يناير 2023  وآخر تعديل بتاريخ 01 نونبر 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا