فاتَني من عُمْري الكثير لم أكْتَرِثْ فيه بما يُسمّونَه تخطيطاً مسبقاً للأمور التي أنوي القيامَ بها أو تلك التي أُفكّرُ أن أفعلَها،ولم أكُنْ مهتمّاً بتوقّع النتائج ولا بالتأكّد من الإمكانيّات،ولا كانَ يعنيني الوقتُ المناسبُ ولا المكان المناسب ولا حتّى الجُهد الملائم لعملٍ دونَ عمل ولا لسهولةٍ أو صعوبة،فكَثُرَ تعثُّري وتتابَعَ فشَلي ..
بلْ كنتُ أُقدمُ على عظائمِ الأمور بميسور تفكير وأُحْجِمُ عن البدء في ميسور الأمور بعد تفكير عميق،وكانت الأحداثُ تدورُ في رأسي كيفما اتّفق وحسبَ ضربةِ الحظّ ووقوعِ حجَرِ النّرْد على وجهه الأسعد،ورغمَ أنّ هذه الطريقة في العيش أو التفكير أو التعامل مع مراحل الحياة تعتبرُ من الأخطاء العشرة الشائعة في سنواتِ المراهقة لكنّها استمرّت معي وفقَ أخطاءٍ عشرة حتى ما قبلَ الأربعين ..
حاليّاً ـ ولا أدري لماذا ـ بدأت الأقنعةُ تتكشّفُ لي واحداً تلوَ الآخر في مسلسلٍ يبدو أنّه مستمرٌّ في حلقاتِه حتى نهاية العُمُر،وبدأتُ أكتسبُ رصيداً كبيراً من المواقف المُضحكةِ على نفسي في سنواتٍ مرّت أستغربُ أن كانتْ تلكَ هي نظرتي وذلك هو تفكيري،ولكنّي استميحُ العُذر من إنسانيّتي وأقولَ لها “كلُّ ابنُ آدمَ خطَّاءٌ” ..
إنّ ربّ العالمينَ ولهُ المثَلُ الأعلى جعَلَ من القرآن الكريمِ مشروعاً استراتيجيّاً نزّلَهُ جملةً واحدةً للسّماء الدنيا في ليلة القدر التي فيها يُفرَقُ كلُّ أمرٍ حكيم،ثمّ فرّقَهُ على النّاس على مُكْثٍ وتابَعَ إيحاءَه لرسوله صلى الله عليه وسلّم وفقَ ما اقتضاهُ الواقع ومجرياتُ الأحداث التي هو المُقدّرُ لها وهو العالمُ بها قبلَ أن تكونَ ..
وهوَ جلَّ في عُلاه الذي خطّطَ أيّما تخطيط لتهيئة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ليكونَ رسولَ هذه الأمة وليكونَ خاتم الأنبياء والمرسلين وليصلُحَ أن يكونَ بشيراً ونذيراً للثقلين الجنّ والإنس،وقدّرَ سبحانه من الحوادث والوقائع والإرهاصات التي تُبشّرُ برسالته ومبعثه،وأولى رعايتَهُ صلى الله عليه وسلّمَ لهُ وحده فحماهُ وأدّبَهُ وطهّرَ نفسهُ وصقَلَ قلبه وأبانَ للناس ما خطّطَ له في أدقّ حالٍ وأكملِ تصريف ..
وهوَ ربُّنا الذي أجرى تفاصيلَ قصّةِ سيدنا موسى منذُ ولادته وحتى انتصاره على فرعون وغرقِ الأخير كشيءٍ محتّمِ الحدوثُ حتى تحينَ ساعةُ الفرقان ويحيا من حيّ عن بينةٍ ويهلكَ من هلكَ عن بيّنة في تخطيط مُحكمٍ وترتيبٍ عجيب لا يتنبّهُ لهُ إلا من قرأَ القرآن وتدبّرَ آياته وتتبّعَ تفاصيل القصة في مواضعها المتعدّدة ..
واللهُ أيضاً نزّلَ في كتابه العزيز قولَه تعالى على لسان سيدنا يوسف “إنّ ربّي لطيفٌ لِما يَشاءُ” بعدَ أن انتهتْ قصّتُه المثيرة للعقول والأفكار منذُ أن رآى تلك الرؤيا وبدأَ أخوته في الكيدِ له ومرّ بأعنف الظروف وأحلكِ الأحوال،وبدا للعالمِ أجمَع أن رؤيا يوسف كانت مُلخّصاً لتخطيطٍ إلهيّ حكيم لا يفهمُه إلا الأنبياء مثل سيّدنا يعقوب حينَ قال لابنه يوسف عليهما السلام “لا تَقْصُصْ رُؤياكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكيدوا لكَ كَيْداً” ..
هذا التحليلُ الشرعيّ لما نتلُوه في الكتاب الكريم يدعوني للعجَبِ أنّي لم أتنبّهْ لذلك من قبلِ رغمَ مروري وغيري مرورَ السّاهين اللاهين على الآياتِ دونَ تمعّنٍ أو تركيز،ولكن عندما جاءَ وقتٌ لأنْ أفهم فها أنا قدْ علِمتُ بأنّ كلّ أمرٍ يأخذُ وقتاً أيّاً كانَ هذا الوقتُ فهو “مشروعٌ” يستحقٌّ تخطيطاً وإجادةً وتحليلاً وانتظارَ نتائجٍ وتقويماً ..
إنّ ربي جعلَ تكوينَ الإنسان في بطنِ أمّه مشروعاً وأوضحَ لنا مراحلَه وأسبابَ وجوده وكيفَ يتكوّن حتّى لحظةَ خروجه لهذه الحياة،وجعَلَ تكوينَ الثّمار في الأشجارِ مشروعاً وبيّنَ كيفَ يكونُ ومتى يكونُ ووقتَ حصاده وينعِه،وجعلَ هطولَ الأمطارِ مشروعاً يشترُكُ في السّحابُ والماءُ والرياح،وجعلَ حركةَ الشمس والقمرِ مشروعاً تولّى القدير العزيز تدبير أمورهما وعلاقتها بالظلّ والكواكب الأخرى وجعلهما آيتين لليل والنهار ومجالاً للحساب وعدّ الأيام ..
وأهلُ التصوّف من الدّاعينَ لفلسلفة “المشروع” وهم أكثرُ التوجّهات الدّينية صبراً على نفسيّات العالمين وهم أوفر المُربّينَ حظّاً في حَصْدِ النتائج المُذهلة من قُدراتِ بني آدم،حيثُ يُخطّطون لكلّ “مُريدٍ” باعتباره مشروعاً مُتكاملاً لصناعة إنسانٍ يُرضي ربَّهُ ويرضى عنهُ ربَّهُ،وكلّما اكتملتْ مرحلةٌ للبناء تولّوا مرحلةً أعظم وتوقّعوا نتائج أبهى ..
ولو تأكّدَ الإنسانُ بأنّ حياتَه “مشروعٌ” يستحقُّ العناية والرعاية منهُ أوّلاً ومن الآخرينَ ثانياً،وتأكّدَ المُجتمعُ بأنّ أفراده “مشاريعُ” يجبُ أن يكونَ لها من التخطيط السليم والخطوات المدروسة ما يتناسبُ معَ كلّ فردٍ ويتماشى مع الإمكانيات وينسجمُ مع معطيات العصر وثوابت الديانة لصلُحَ الأمرُ بِرُمّته ونجحَ العالمُ الإسلاميّ بأُمّته ..
لقدْ رسّخَ النبي صلى الله عليه وسلّمَ في نفوسِ أصحابه أنّ “الصلاةَ” مشروعٌ” إيمانيّ للتقرّب لله لهُ من المكانة ما ليسَ لغيره من اهتماماتِ المسلم،لذلك حرِصَ الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام أن يكونَ العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة ومن تركها فقد كفر،وحرِصَ على أن ينسلخَ المُصلّي قدرَ استطاعته من كلّ “مشروعٍ” دنيويّ ليحظى بأكبر قدْرٍ من عوائد هذا المشروع الأخروي الفضيل،ووضَعَ الشارع الحكيم للصلاة استعدادات وبدايات وانهماكات ونهايات كأيّ مشروع نتصوّره ..
والصّيامُ مشروعٌ يستعدّ له الصائمُ بسحورٍ،والزّكاةُ مشروعٌ يستشرفُ لهُ المالُ بحَوْلٍ ونِصابٍ،والحجُّ مشروعٌ عظيمٌ لهُ موعدٌ ولهُ عُدّةٌ وأيامٌ معلوماتٌ ومواقيتُ للنّاس،والدّينُ الإسلاميّ “مشروعٌ” متكاملٌ يحملُ الخطط والبرامج والمقاصد والعلاج والحلول في قالبٍ مَرنٍ وحيويّ،ولا أدلّ على ذلك من “الاستخارة” التي سَنّها صلى الله عليه وسلّم عندَ “الحيرة” أو الإقدام على أمر ليُثبِتَ للمُستخير بأنّ كلّ فِعلٍ هو “مشروع” عملٍ يجبُ الحرصُ على أن يكونَ ذا تخطيطٍ واضحٍ مُصاحبٍ لأدواتٍ نافعة ..
وما “الزّواجُ” في الإسلامِ إلا من أرقى “المشروعات” التي لها وَفرةٌ هائلة من البيانِ في القرآن والسنّة،وما “الطلاقُ” إلا من “مشروعات” المُباحِ الشرعي الذي إن قُصِدَ به إنهاءُ العلاقة كما بدأتْ كانَ خيراً ويُغْنِ الله كُلاً من سَعته،بل إنّ أدقّ تفاصيل الحياة اليوميّة للإنسان المسلم جعلَها الدينُ “مشروعاً” ووضعَ لها قواعدَ وأساسيّات ولوائح ونُظماً تصلُحُ إن طبّقها الإنسان ويشقى من ضرَبَ بها عرض الحائط وعاش كالأنعام ..
ما يُلفتُ النّظرَ في “المشروعات” الدينيّة هذه هو أنّ المُنهمَكَ فيها قادرٌ على أن يُعطيَها حقّها من العناية والرعاية والإتيان بالوجه الأكمل والأمثل كلّما زادَ انهماكُه وتفرَّغَ لما هوَ فيه وأدّى كلّ “مشروعٍ” في وقتِه،ولو استخدَمنا هذا الأسلوب الذي يدعونا إليه دينُنا في حياتنا أجمع لبلَغنا “القمرَ” قبلَ أن يبلُغه “الغرب” ولوَجدْنا علاجاً “للإيدز” قبلَ أن يخترعَ “الغربُ” فيروساً جديداً بعدَ “انفلونزا الخنازير” ..
إنّ إعطاءَ كلَّ “مشروع” حياتيّ حقّه من الوقت والتخطيط والتفاعل والتقويم يعودُ بالفائدة على من قامَ به ومن أُقيمَ لهُ ومن ينظرُ إليه ومن يراهُ ومن يقرأُ عنه،ولكنّ استعجالَ الأمور وفتحَ العديد من الجَبَهات على تفكير الإنسان “بمشروعات” مبتورة لا أوّلَ لها ولا آخر فهو حالُ “المُنْبتِّ” الذي لا أرضاً قطَعَ ولا ظَهْراً أَبْقى ..
-
Mohammad ahmad babaأكتب ما أعرف ..