لست من متابعي كرة القدم عن كثب، ولكن يروق لي -كما يروق للكثيرين- الوقوف على الدروس والعبر في شتى ميادين الحياة. وقد عرف عن المدير الفني للمنتخب المصري لكرة القدم، هيكتور كوبر، الأداء المتواضع والهزيل أحيانًا، الذي لا يرقَ لمستوى يليق بالفراعنة -حاملي كأس الأمم الإفريقية أربع مرات- مهما كانت الظروف. في الوقت نفسه فإن عزاء كوبر يتلخصُ في جملةٍ واحدة: "أوصل مصر لكأس العالم للمرة الثالثة في تاريخها"؛ فهذا الإنجاز يضع الأرجنتيني كوبر على قائمة الكبار في تاريخ الكرة المصرية مع الأسكتلندي جميس ماكريا (1934)، والمصري محمود الجوهري (1990)؛ فهؤلاء نجحوا في الوصول بالفراعنة لمونديال كرة القدم.
كان كوبر قد شارك في شهر رمضان الماضي (1438 هجرية) في إعلان لإحدى الشركات؛ ثم هوجم بعد ذلك، وأطلق عليه بعض الإعلاميين والرياضيين "مدرب الفتة". تعود مصر للمرة الثالثة للعب مع الكبار، على أرض الدب الروسي بعدما فعلتها مرتين على الأراضي الإيطالية. ليس ثمة شك أن الأداء الذي ظهر به المنتخب المصري في مشوار التصفيات أقل مما توقعته الجماهير والنقاد، ومع ذلك فإن قاعدةً مهمة يتعين علينا التشديد عليها هي: "تمسَّك بالأمل مهما كان الأفقُ مُظلِمًا"؛ فعلى الرغم من تدني المستوى إلا أن الأمل يُشعِلُ الرغبة في تحطيم الحواجز، ويكسر رِبْقَةَ اليأس والاستسلام.
إن كان كوبر لا يستحق التأهُّل؛ فإن الشعب المصري الذي كابد وذاق الأمرين جديرٌ بأن يفرح، وحقيقٌ أن يسعد بعدما تتابعت عليه محنٌ لا حدَّ لها ولا عدّ. في هذه الآونة يطيب لنا التذكير بجملة بديعة لصاحب نوبل الدكتور أحمد زويل -تغمَّده الله بواسع رحماته- وتصف حالنا بدقة: "الغربُ ليسوا عباقرة، ونحن لسنا أغبياء؛ هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل". إن كلمات التفشيل والإحباط تنال من النفوس بشكلٍ لا يوصف، وقد حانت اللحظة لأن ننظر لأنفسنا بعينٍ مغايرة؛ فلا نبالغ في تقدير الأمور بتهوينٍ أو تهويل. إن التوسط في الأمور حكمة؛ فالمبالغة في الاحتفاء والاحتفال، ومكافأة كل لاعب من لاعبي المنتخب بمليون ونصف المليون جنيه أمر غريب ومبالغ فيه بكل معنى الكلمة!! فنحن نرزح تحت الفقر، وهذه المبالغ كان الأولى بها من يفترشون طرقات المستشفيات، ومن لا يجدون كوبَ ماءٍ نظيف، ومن يتكدسون في المدارس والجامعات الحكومية لعدم وجود أماكن تحتويهم، وغيرهم الكثير والكثير. وفي ذات الوقت لا يجب علينا التقليل من حجم ما حققناه -وإن كان صعودًا كسيحًا كما وصفه البعض- ولنضع نُصب أعيننا الخطوة التالية.
لقد فعلتها الفتة!! فأرجوكَ ألا تستسلم؛ وحارب في سبيل هدفك ما استطعت إلى ذلك سبيلا. واحذر أن تكون حجرًا يعرقل نجاح من حوله بكلماته السلبية، واستشعر حجم الدمار النفسي والعصبي الذي يقع على كواهل من توزِّع عليهم كلمات الإحباط والتقنيط والوهن بمنتهى الكرم!! شجعهم على تحقيق أهدافهم؛ فإن حادوا عن جادة الطريق وسقطوا مرةً بعد مرة؛ فساندهم وحثهم على الاستمرار في التقدُّم مهما كان بطيئًا؛ فهذا أحرى بهم لينجحوا كما أنه أحرى بك في مساعدتهم. جلد الذات لن يرتقي بنا لما نصبو إليه، في حين أن الإصرار والعزيمة الصادقة تفعل ذلك. كان الفنان، عزيز عيد، يقول لأحد طلابه باستمرار: "أنت مينفعش تبقى ممثل، شوف لك شغلانة تانية غير التمثيل"، وبعد سنواتٍ قلائل كان هذا الطالب صاحب مدرسة في الأداء التمثيلي في المسرح والسينما؛ إنه الفنان محمود المليجي. وفي ذات الصدد، قبل حرب أكتوبر المجيدة كان الأستاذ، محمد حسنين هيكل، يرى أن دخول الحرب مع إسرائيل من رابع المستحيلات -بالإضافة للغول والعنقاء والخل الوفي- وأن مصر تحتاج لقنبلة ذرية لتقهر إسرائيل!!
العاقل يستخدم منهج الحكمة في تصرفاته؛ فلا يبذر السلبية في النفوس، ولا يبالغ في الفرح بما حقق وجمع، بل يجلس مع نفسه ويحلل نقاط القوة والضعف، ويوازن بين الفرص والتهديدات، ويخاطر مخاطرةً محسوبة، ولا يُدخِله رضاه في باطل. فإن كان المنتخب قد أسعد شعب مصر بالوصول إلى كأس العالم؛ فإن شعب مصر أولى بالسعادة عن طريق تحسين الخدمات المقدَّمة له، وتطوير المرافق التي يتعامل معها يوميًا قبل أن نرمي بملايين الجنيهات تحت أقدام فريق الكرة. وحال المواطن المصري المطحون -وربما لسانه- يقول: ما هي استفادتي من الملايين التي أغدِقت على لاعبي المنتخب، وما فائدة اتساع الكون إذا كان الحذاء الذي أرتديه ضيقا؟!!
العاقل يدرك مواطن القوة في الناس من حوله، ويرشدهم لاستثمارها والانتفاع بها في كل ما يرفعُ شأنهم. ربما يكون البعض مترددًا في نفسه، أو يعاني نزيفًا حادًا في ثقته بقدراته؛ فيأتي العقلاء ليمسحوا عن مواهبه غبار التردد والتذبذب والريبة؛ فترى هؤلاء السُذَّج تحولت حياتهم بفضل من بثَّ فيهم الثقة والطموح إلى سلسلة متواصلة من الإنجازات بعدما كانت قاعًا صفصفا. وكما أن العقلاء يأخذون بأيدي من حولهم ويساعدونهم على النجاح الشخصي؛ فإن العقلاء يغيرون العالم بنظرتهم الثاقبة الأمور من حولهم، وعندها قد يصيح المرء: لقد فعلتها الفتة!! ولكن الحقيقة أن هناك من أعملَ فِكره في استجلاء الدُّرِّ من الصدف، وأخرجَ أفضلَ ما تحويه النفوس؛ فكانت الإنجازات العظيمة التي نراها من حولنا.
من بين الأمثلة التي تؤكد لك فضل تشجيع الناس ما دار في أروقة الدولة الأموية بعد موت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. كانت العرب قد دانت ليزيد عدا "قيس عيلان"، فدارت رحى الحرب بين بني أمية وقيس، وإبان تلك الحرب مات يزيد وقد أوصى بالحكم لابنه معاوية، الذي لم يمكث إلا أربعين يومًا ثم وافته المنية، ورفض أن يوصي بالحكم لأحد وقال: "هي بينكم"، وهنا هاجت البلاد وماجت؛ فالبعض نادى بولاية ابن الزبير، والبعض لاذ بالصمت، وكانت فترة عصيبة على المجتمع العربي في محيط الخلافة. كان مروان بن الحكم قد عقد عزمه على مبايعة ابن الزبير، ولكن شاءت الأقدار أن تتخذ الأحداث مسارًا آخر؛ فقد صرَّح مروان بما يدور في صدره لعمرو بن سعيد بن العاص، ولم يكن يستشره في ذلك، إنما أراد مجرد إطلاعه على ما استقر عليه رأيه؛ فقال عمرو: بينما أنتَ المرجوَّ وشيخ قريش، إذ صرت رسولًا لأخي فِهر؟! وما أنتَ من الأمرِ ببعيد!!
نزلت الكلمات على مروان بن الحكم الأموي كالصاعقة، وأيقظته من سباتِ أهل الكهف، وحركت فيه شهوة الخلافة، وكان عبد الملك بن مروان يشهد هذا المجلس، فقال لأبيه: "لستُ أشُكُ مع الاختلاف الذي أرى أن هذا الأمر صائِرٌ إليك". هذا ما حدث بالفعل، وجلس مروان بن الحكم على كرسي الخلافة (64 هجرية) ثم جاء من بعده، عبد الملك بن مروان، المؤسس الثاني للدولة الأموية بعد مؤسسها الأول، معاوية بن أبي سفيان، وظلت الخلافة الأموية حتى مقتل، مروان بن محمد، المعروف بمروان الحمَّار (132 هجرية). كلمة تشجيعٍ وتحفيز بثت الثقة في نفس مروان بن الحكم، ووضعته وذريته من بعده في حكم الدولة الإسلامية قرابة ثمانية وستين عامًا في الجزيرة العربية، قبل أن ينتزعها منهم العباسيون. وعندها نشأت دولة بني أمية في الأندلس واستمرت حتى سقوطها إبان خلافة هشام المعتَّد بالله (422 هجرية).
لا تخشَ كلماتهم السلبية، وحقق إنجازاتك، حتى وإن قالوا: لقد فعلتها الفتة!! المهم أن تكون جديرًا بأن تحقق ما تريد، وثق بأن كلام الناس لا ينتهِ؛ فامض في طريقك، ولا تنزعج إذا ما قالوا: لقد فعلتها الفتة!!
التعليقات
الهدف الأول فى البداية هو المعارضة على مكافأة لاعبى الكرة بهذا المبلغ حيث أن الهدف الذى أحرزوه لا يستحق كل هذه المكافأة ... وهذا فعلا ما قلته سابقا . وللأسف كان الرد أنها من رجال الأعمال وليست خاصة بملكية الشعب أو الحكومة .
أما الهدف الثانى والذى تم به بدء المقال وإنهاؤه أيضا به وهو المثابرة والحث على التغلب على العقبات والصبر حتى الوصول للنجاح أو الهدف المنشود .. فهل هذا الرأى صائب ؟