لولا المحبة والألفة لِما وُجدنا، لِما قيل أن الجنة بدون ناس تنداس، أي لن يكون لها قيمة بدون بشر، فأرصفة الشوارع بإمكانها أن تتحول إلى جنة عندما يحتل أغلى الرفاق والأحباء مساحتها الضيقة، فالجنة ليست بالضرورة أن تكون براح أخضر، إنما يكفي اجتماع الأحبة معا وسوف تتحول الأماكن من تلقاء نفسها إلى جنات تجري من حولهم في اشتهاء عذب.
لكن ماذا لو أن الأصحاب آنفوا بعضهم البعض فجأة؟ ولو أُعيدت لك المقاهي فمن يُعيد إليك الرفاق؟ كما يقول نجيب محفوظ، والحقيقة أن المقاهي لطالما بقت وإن تغيرت أحيانا بعض ديكوراتها! أما نحن لا نبقى، ليس لنا أمان وليس لنا أي صلاحية كما بات يدّعي البعض، فنحن عادة محكوم علينا بمصاحبة رفاق الأماكن أي كانت تصنيفاتها، وهذه الرفقة غالباً ما تنتهي أيضاً بانتهاء مهمة المكان الذي جمعنا، لكن ماذا لو أن المهمة لازالت قائمة، وأن الرفاق لم يبالوا بأدنى صور الشكليات، ماذا عندها بالفعل؟ سيكون المكان موحش، والمهمة ستكون فارغة من أي معنى، ونحن سنكون أشبه بالروبوتات، مجرد أنفاس بلا مشاعر كما في فيلم Equilibrium.
أيام الجامعة هي الفترة التي يتفتح فيها وعينا بعلاقاتنا مع الآخر تدريجياً، ويكون ذكيا الذي يستطيع فهرسة الزملاء والرفاق حينها ، فلا كل زميل يصلح لأن يكون صاحب، ولا كل صاحب يصلح لأن يكون صديق، وهذا عرفته بعد أن وصلت إلي رسالة شفهية مع صاحبتي ذات يوم - تخبرني فيها أن صاحبتنا كذا قالت أنها لا تود معرفتنا مرة أخرى، لا كلام ولا صباح، هكذا قطيعة تامة! وصاحبتي كانت تقول هذا بسخرية قاتمة، وحقيقة نحن كنا أشبه بالمشهد المستهلك الذي يقبض فيه على فقير ما بجرم ما، وهو لا يملك سوى الصراخ " أنا بريء، أنا بريء!" ثم مضت صاحبتي بتأثر شديد تحكي عن مواقفها الطيبة مع صاحبتنا تلك، أما أنا فمضيت أسرد الود الذي كان بيننا؛ ولكن كحال أيام الجامعة سريعة الانطواء، نُسي هذا الموضوع بعد أن شعرت أنا وصاحبتي بالخذلان وأن ليس هناك داعي للانتحاب!
وبعد مرور عامين ربما من تخرجنا، قد دعتني زميلة على حضور زفاف اختها، وهناك رأيت هذه الصاحبة، فسلمت عليها بالعناق والقبلات ناسية تماماً القطيعة التي بيننا، فارتسم محياها بخجل شديد لكن ابتسامتي البلهاء قد ساعدت في تبديده، ثم انصرفت وأنا أستعيد مكانة هذه الزميلة، نعم هي كانت مجرد زميلة، لكن هذا لا يشفع لنا في تصرفاتنا الخرقاء مع بعضنا البعض، فالروح وإن مالت للتعمق في جوهر الآخر، يبقى القلب متعطشا لأقل صور الود والوصل، شفاف هو، سرعان ما يحزن ويسعد كطفل لا يملك دوافع منطقية اتجاه تصرفاته الطفولية.
"معاذَ الله ما أنهيتُ ودًّا بَدأتُه، إلاَّ بعدمَا رأيتُ أنَّه قَد هانَ ودِّي"
لا أعرف لمن هذا البيت النثري، ولكن أود أن أخبر صاحبه أنه أنقذني من ازدواجية محققة، فقلبي أراد أن يتحول لذرات من جبس كي يلصق الود الذي فُتق من خلال هذا التدوين، لكن الشيء الذي يُكسَر يستحيل استعادته كما كان، سيبقى أثر الشرخ واضحاً وإن حاولنا طمسه بطبقات من ود متكلف، لكن يحزنني أن أخبركم أن الود المتكلف ذاته أمسى غير موجودا..
فبعد رفقة دامت لسنوات مع شخصية كنت أظنها صديقة، تبخر الود الذي كان فجأة، وتحول إلى لامبالاة ومن ثم قطيعة تامة، لكنني عندما قابلتها بعد غياب مني دام لثلاثة أشهر، لم أستطع تجاهلها فسلمت عليها، وذات ملامح الحرج والخجل التي كانت على وجه زميلتي، لم أكن أعرف أنني ساذجة لهذه الدرجة. وأنا عندما بدأت بالسلام في كلا الموقفين لم أرد شيئاً عدا أن الود لم يهن عليّ؛ أهالينا قالوا أنه في قديم الزمان عندما كان الأعداء يتقابلون كانوا يلقون السلام على بعضهم البعض احتراماً وتقديراً!
إذن لا وجود لإصلاح ود لا يَود أن يُصلح أو يعود، ولا معنى لسلام يُؤخذ بالتحرج والخجل؛ لذا دعوا الود لأهله، لأن هؤلاء القوم غير مأسوف عليهم.
-
Walaa Atallahكاتبة ومدونة مصرية.
التعليقات
راقتني جدا. . ابدعت اخت ولاء
بس ملحوظة: لإصلاح ود بدل ودا ...اعلم أنها سقطت سهوا دمت بود