عشيقتي الحبيبة، تلك التي كبرت معها مذ ولدت، كلماتها كانت أول ما دخل أذنيّ من كلمات الدنيا، وكبرت معها، ترافقني يومًا يومًا في كل مكان، رسمت على وجهي الابتسامات، وأدخلت إلى قلبي أنوار الفرح مرات عدة، وهي أيضًا أدمعت عينيّ، وأصابتني بقشعريرة الحزن.
هي عرفتني إلى الأحبة والأصدقاء، كانت حلقة الوصل بيني وبين المعارف والعلوم، تعلمت معها قراءة القرآن، وعرفت رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ووالله لو جلست أعدد فضائلها عليّ وعلى البشر أجمعين ما كفاني مداد الأقلام، مذ سمعت كلماتها لأول مرة غرقت في هواها عشقًا، في صغري كانت هي مربيتي ووصانعتي، كانت وقت سعادتي، كانت متعتي.
بين قرائنها هي الخالدة الوحيدة، نعم خالدة تعيش للأبد في الدنيا، ويحييها الله في الآخرة وحدها دون غيرها، كرمها الله خير تكريم ولا نعرف قدرها، منحتنا كلنا أسماءنا، وأكسبتنا هويتنا، وأهناها، وأدنا بناتها، ندفعها كل يوم إلى قبر غير عابئين بأن الله اختار لها الخلود.
هي صاحبة الفن كله، عشقها الكثيرون من أهل الطرب، ورؤوا فيها موسيقا ساحرة ليست لغيرها في الكون، فتغنت بها أم كلثوم، وشدا بها عبد الوهاب وعبد الحليم، وأبدعت معها أصوات عشاقها من القراء، فكان قيثارة السماء محمد رفعت، وكانت عائلة القراء المنشاوية محمد ومحمود وصبري وغيرهم الكثير من أهل القرآن، وعشقها الشعراوي فوصل إلى قلوب الناس أجمعين بتفسيره الوافي البسيط.
أرى قرائنها قد أحيطوا بحب وعشق وحماية أهلها، رغم أن عشيقاتهم من الفانيات إلا أنهم أكرموهن، وحافظوا عليهن، وحموهن بالقوانين والتشريعات، وأحاطوهن بالاعتزاز والافتخار، فتقدمت أممهم، وعزت أوطانهم، وأهنا نحن عشيقتنا فذللنا وهنّا، والمجد قمة المجد في إعزازها.
إن كلمة الجمال لا توفيها حقها، هي مزينة بالآلئ الغالية، مرصعة بالجواهر الثمينة، لكن التقرب منها يحتاج أن تعشقها، وأن تدافع عنها، فهي كثيرًا تتعرض لمحاولات الاغتيال والقتل، وكثيرًا ما تتأذى من أبنائها قبل أعدائها، ننظر لها فنراها جمادًا وقد عميت البصيرة، وهي كائن حي، متجدد الجمال.
إنها لغتنا الجميلة، إنها لغتنا العربية، التي أكرمها الأجنبي كلوت بك الفرنسي مؤسس مدرسة الطب الأولى المصرية مع محمد علي باشا، حين أصر أن يعيد أطباء الدفعة الأولى المصرية الشرح الفرنسي على الطلاب بالعربية إيمانًأ منه بأن الطالب يستوعب أكثر ما يستوعب بلغته، إنها لغتنا الجميلة التي يؤذيها كتاب الصحف والمجلات بالأخطاء الإملائية، وأصحاب لافتات المحلات الذي يكتبون الإنجليزية بحروفها العظيمة، والله إن أستحي من كبار يخطئون في كتابة الهمزة، وأتألم وأعجب من شباب يزعمون ثقل اللغة العربية!! لم تشتكوا ذلك قط وأنتم تشاهدون جريندايزر و النمر المقنع وسالي وصاحب الظل الطويل ! بكل كنتم تقفزون هنا و هناك تتحدثون بكلامهم العربي الفصيح.
لكن ليس العيب على أبنائها فحسب، وإنما العيب أيضًا على معلميها، الذين لم يبرزوا جمالها، آه لو يتعلم الصغار شعر أمير الشعراء شوقي على ألسنة الحيوانات، آه لو درسنا في المدارس أشعار شعراء أحياء مبدعين مثل فاروق شوشة وفاروق جويدة و عبد الرحمن يوسف، يا سلام لو اقتبسنا للطلاب من كتاب التصوير الفني في القرآن لسيد قطب لنلتفت إلى أبهى صور العربية في معجزة الإسلام الخالدة القرآن الكريم.
يتحدث الخواجات الإنجليزية دون أخطاء منذ نعومة أظفارهم، لا يتعلمون في المدارس النحو والقواعد، ولكن يتعلمون أن تكون اللغة في فطرتهم، وإني أرى أن يكون تعليم عربيتنا معتمدًا على السماع والتحدث و القراءة والكتابة، لا على تلقين وتحفيظ النحو والصرف والشعر.
يا عشقيتي إن الله قد حماك إذ تعهد بحفظ القرآن الكريم، وكرمك إذ اختارك لغة نبيه و قرآنه، وخلدك إذ تبقين لغة أهل الجنة وتفنى كل اللغات، والله لا أجد في آخر مقالتي هذه إلا أن أترك لك الحديث مباشرة بينك وبين أبنائك وعشاقك، على لسان شاعر النيل حافظ إبراهيم:
رَجَعتُ لِنَفسي فَاِتَّهَمتُ حَصاتي وَنادَيتُ قَومي فَاِحتَسَبتُ حَياتي
رَمَوني بِعُقمٍ في الشَبابِ وَلَيتَني عَقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقَولِ عُداتي
وَلَدتُ وَلَمّا لَم أَجِد لِعَرائِسي رِجالاً وَأَكفاءً وَأَدتُ بَناتي
وَسِعتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً وَما ضِقتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ وَتَنسيقِ أَسماءٍ لِمُختَرَعاتِ
أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي
فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِني وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَساتي
أَرى لِرِجالِ الغَربِ عِزّاً وَمَنعَةً وَكَم عَزَّ أَقوامٌ بِعِزِّ لُغاتِ
أَرى كُلَّ يَومٍ بِالجَرائِدِ مَزلَقاً مِنَ القَبرِ يُدنيني بِغَيرِ أَناةِ
وَأَسمَعُ لِلكُتّابِ في مِصرَ ضَجَّةً فَأَعلَمُ أَنَّ الصائِحينَ نُعاتي
أَيَهجُرُني قَومي عَفا اللَهُ عَنهُمُ إِلى لُغَةٍ لَم تَتَّصِلِ بِرُواةِ
سَرَت لوثَةُ الإِفرِنجِ فيها كَما سَرى لُعابُ الأَفاعي في مَسيلِ فُراتِ
فَجاءَت كَثَوبٍ ضَمَّ سَبعينَ رُقعَةً مُشَكَّلَةَ الأَلوانِ مُختَلِفاتِ
إِلى مَعشَرِ الكُتّابِ وَالجَمعُ حافِلٌ بَسَطتُ رَجائي بَعدَ بَسطِ شَكاتي
فَإِمّا حَياةٌ تَبعَثُ المَيتَ في البِلى وَتُنبِتُ في تِلكَ الرُموسِ رُفاتي
وَإِمّا مَماتٌ لا قِيامَةَ بَعدَهُ مَماتٌ لَعَمري لَم يُقَس بِمَماتِ
-
عاصم السيدشغوف بمثلث العربية والإذاعة وريادة الأعمال