يوم مولدي ذاكرة علي جليد ملتهب - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

يوم مولدي ذاكرة علي جليد ملتهب

سيرة ذاتية

  نشر في 13 يونيو 2023 .

يوم مولدي

"ذاكرة على جليد يحترق"

حسن غريب

اليوم الثلاثاء 13 يونيو2023م هو يوم مولدي من ستين عاما مضت ، وقبل ثلاثين عاماً من مولدي ولدت هي، لو كانت مكاني لما كتب لها أن تعيش ولحرمت من فرصة البقاء لحكمت بالموت لكونها بنتا، وأعطيت ذلك لكوني ولداً ومن يومها وأنا مدان بحياتي لأبي ولها ولذكورتي.

من الدم إلى الدم تتواصل اللغة وتتواصل الحياة .

ما زلت أرى حياتي لحظة عبور كمرور خيط من الضوء في جسد إبرة امرأة تغرق في دمها لأرى النور، وطفلاً ترفعه الممرضة لي ، وتلوح به وكأنها تؤكد لي أنني ولدت حياً.

عندما فكرت أن أكتب شيئاً من ذاتي، أو أن أكتب عبر الكتابة عني، وجدت نفسي أنسل بعيداً في الذاكرة، ذاكرة تضيع بي في بئر أعمق مما تخيلت وتعود بي إلى ما قبل البدايات إلى لحظة الميلاد إلى يوم مولدي، وأنا أكتب ما خبرته كلاماً عن يوم مولدي بدأت أعيشه بالصورة لحظات مولدي، وأذهلني حجم التشابه بين ما روي لي حكاية عن يوم ميلادي وما عايشته حقيقة في ميلاد أمي لاكتشف أن الحدثين متماثلين لدرجة غريبة حيث إنهما تقاربا في كل شيء عدا فاصل زمني بطول ثلاثين سنة، وتغيرات ما حصلت من هتاف منذ أن ولدت ، حيث لو هي كانت مكاني لما ولدت وإنما قتلت....

كنت مرآة بين والدين ، لحظة عبور بين قضيتين حكاية الأولى وسؤال الثاني، بينهما اكتشفت حقيقتي فكنت أتميز على ضوء رؤيتهما وأتشكل على حواف وجودهما.

أمي هي المرأة الأولى، تلك المرأة التي ولدتني في يوم شتوي تتساقط فيه الثلوج، ثلوج تغطي نخيل سيناء والعريش وسيارة تحملنا معا إلى المستشفى العام في العريش، ممرضة سمراء ، تجهز أمي للعملية وأبي يرفض التوقيع على العملية الجراحية خوفاً على حياة زوجته ويختار المجازفة بحياة الجنين أنا، ما زلت أسمع ذلك الحوار، ويتردد صداه في أذني، لا أعرف هل سمعته وأنا جنين ينزل جزؤه الأسفل من رحم الأم ويتشبث نصفه الآخر في ظلمة الرحم ودفئه بيدين منفرجتين، لا أعرف هل كنت أسمع ما يجري، ؟

أم أني سمعته بعد ذلك طوال حياتي، فانغرس مع ذاكرتي وانطبع فيها.

كنت سأبقى هناك في العالم الدافيء المظلم، شبحاً يجوب في دنيا الظلام، أو روحاً هائمة تبحث عن جسد آخر تسكنه وتقوده إلى عالم الحياة، لولا حضور خالي صالح المثقف،الذي سأل عن جنس الجنين، واختارني على حياة أخته عندما علم أني ذكر فوقع على العملية الجراحية، قائلاً نحن نحتاجه، يحتاجني أو يحتاج الذكر فيَّ من يومها وأنا مدان بحياتي للجزء الذكري مني.

ولدت ملوثاً بدم أمي ، أم تقرر حياتها مرة وحياة طفلها مرة أخرى دون أن تعلم أو تسأل عن رأي، وبلعنات أخرى كلعنة الذكورة ولعنة برج الجوزاء وتظاهرات القوميين والشيوعيين التي كان منظموها يسقطون برصاص جنود الأمن والشرطة المصرية، ويكتبون بدمائهم يسقط النظام....بسبب الحرب الباردة ما بين مصر وإسرائيل .

هكذا قيل لي، أو هكذا كان يوم مولدي، يوم يمهد لاختتام نهاية شهر يونيه13من السنة

1963م، لبداية سنة ستمهد لكارثة جديدة.

من يومها وأنا مدان بحياتي، لأم قدمت جسدها لمشرط بقيت آثاره على جسدها حتى اليوم ولخال اختارني على أخته، ولأب حملني من بيت خالي إلى المستشفى في أجواء المطر والرصاص طوال فترة وجود أمي في المستشفى.

قرأت مرة قولا لكافكا "أن لحظة استيقاظه في الصباح تحدد مزاجه طوال اليوم" وهذا ما حصل معي فلحظة ميلادي طبعت حياتي كلها بطابع فيه عنف وقسوة ولعنة ما.

وهكذا عشت بين يدي أم، امرأة في مشاعرها، في حكاياتها، في غنائها، في بكائها، في ضحكاتها ولكنها رجل في طريقة تربيتي تتماهى مرة مع أبي ومرة مع خالي وكأنها قبلت أن تكون سطح زجاج يشف عنهما ليلغي وجودها ويضخم وجودهما .. ومع أنها حقنتني بحبهما إلا أن حبي لها دفعني كي أدفعهما بعيداً، لأكون لها وحدها

امرأة تمتد فيَّ وتخترقني وأخرى أمتد فيها واخترقتها وكأني جسر بينهما أمي الأولى وابني الثاني، وكأن ما عشته وتربيت عليه ليس سوى غلالة بين أثنين.

ذلك الغامض فيّ هو المجهول في أمي ذلك الإحساس الذي يخترقني كلما تكلمت بلغتها أو قلدت حركاتها، إنه أنا وأنا لم أكن إلا هي، بين اثنين أرى نفسي في مرآتين.

من الأولى تعلمت كلماتي الأولى، وإحساساتي الأولى، وكونت أول معالم وعيي وثقافتي، لقد منحتني كل ما أعرفه، اسمي ، طفولتي كل ما لم أعه إلا إحساساً حولته بالحكاية إلى وعي لدرجة لم أعد أعرف إن كنت أذكره واقعاً أم أتذكره حكاية، منذ يوم مولدي أو حتى ما سبق ذلك يوم كنت جنيناً في جسدها وأرى يديها تخيطان لي أول ملابسي، تلك الذاكرة التي حملتها فرحاً ولعنة، فرحة التشكل والبدايات ولعنة الدم الأول دم الأم المسفوك على مذبح الولادة، أبي مثلي لم يلد إلا بعملية جراحية يشاركني تلك البداية، ويشاركني المولد الشتوي ولعنة برج الجوزاء ولعنات أخرى .

بدايات عاصفة تحمل في طياتها شخصية تجبل على العناد والإصرار والغباء الظاهري ذلك الغباء الذي يميز كل من يعيش في الداخل، في الباطن ولا يأبه لظواهر الأشياء.

الثاني يشبه الأولى، الابن صورة للأم، وكأني حملت أمي لتعيرني وتصير ابني، مازلت أنظر في عين الأولى، تلك العين التي فقدت تألقها وبريقها بفعل المرض والشيخوخة، ذلك البريق الذي مر عبري ليسكن عين أبي وكأني كنت جسراً للعبور من الجدة إلى الأب، لم أكن إلا مرحلة عبور، تعيرني الحياة أو تمر عبري لتنتقل من امرأة تذوي إلى أمريء ينمو من مرحلة تكتمل إلى أخرى تبدأ، وبين الاثنين، وفي المسافة بين الرحلتين، أتحقق وتكتمل رحلتي، رحلة رجل تخلقه الأم، ويساعده الأب على الرؤية ، وكأنني أنا هما الاثنان معاً أو خيط بينهما بين أم تتوارى وأب يتراءى.

فأنا أعود إلى ذاتي قارئاً ومستكشفاً كلما حكيت لتلاميذي ما حكته لي أمي عن نفسي، وأنا أحكي للأطفال عن طفولة معلمهم ومولده، يشدني من عالم الحكاية إلى عالم السؤال، ليسألونني عن طفولتي

وينقلوني من حكايتي إلى حكايتهم، ثم يخرجونني من الحكاية إلى فضاء التأمل والسؤال عندما يسألونني عن سر التشابه، لماذا ولدت في نفس الشهر الذي ولد أبوك فيه؟

لماذا كلاكما ولد بعملية جراحية؟

ما معنى أن الطبيب قد أعطاه علامة 10/10 في الاختبار الأول في مدرسة الحياة والذي يعني أنه بصحة جيدة فأقول لهم إن الممرضة قد أخبرتني أن هناك مجموعة من الملاحظات التي تعني أن المولود في حالة جيدة منها أن يكون لون الجلد أحمر لا أزرق هذه علامة إذا صرخ الطفل عند الخروج مباشرة فهذه علامة ثانية، فيدهشني سؤال أحدهم قائلا: ما هذا الكلام، أليس اللون الأحمر لون دم الأم؟ ألم تقل لنا إنكما ولدتما بعملية جراحية؟ فأهمس نعم. أليس الصراخ علامة رفض وتذمر وكيف تكون الصحة رفضاً واحتجاجاً، وهل هو صرخة التحرر من الرحم أم اختناق السمكة المقذوفة خارج البحر ؟

فيسأل لماذا لم تولدا بشكل طبيعي وعادي ؟ ثم يسألني أخر لماذا يشبهك تماماً، وهل أنت هما؟ ولو أنك لم تكن أبنهما فمن ستكون؟ فأعيد لو لم تكن أنا فمن أكون أنا ؟ وكأن الحوار حوار الوجود والسؤال سؤال الهوية، من يكون هو من دوني، ومن أنا قبل أن يكون.؟

السؤال يدور كرحى طاحونة، والإجابة تلوح في دائرة النور والظل، أقبض على عمقهم وغموضهم ليلاً لتفر في شفافية النهار وكأنه جزء من لعبة المجاز والحقيقة أو الظهور والاختفاء لأعود أبحث عن ذاتي بين الاثنين كأني الوهم والمرأة هي الحقيقة، وكأني السؤال والمرأة هي الإجابة.

من المرأة الأولى تعلمت درس الحياة ومن المرء الأخير تعلمت فن السؤال ومن أخريات بينهما عشت تجربة الألم والتفتح والدهشة والحب وتعلمت فنون اللغة.

وتبقى الحكاية "كما قال الروائي العالمي باولو كويلوا "..

في قديم الزمان كان أحد المتصوفين عندما يستشعر خطراً ما يذهب إلى مكان محدد في الغابة ويشعل النار ويتلو الصلاة فيستجيب الإله ويزيل الخطر وتمر الأيام ولم يعد يقدر على الوصول إلى المكان فيشعل النار ويتلو الصلاة ويزول الخطر وبعدها لا يقوى على إيقاد النار فيصلي فقط وأخيراً يقول: لقد نسيت الصلاة ولم أعد قادراً على إيقاد النار، ولا الوصول إلى المكان، ولا أملك إلا الحكاية، فهل تكفي.... ويستجيب الإله ... ليقول: نعم الحكاية وحدها تكفي لكنها لا تكتمل إلا بالسؤال .

وتعود الحكاية لتتكرر مرة أخرى، ليس في المستشفى العام بالعريش في سيناء وليس في نهاية عام 1967 وإنما في نهاية 1996 في مستشفى الشاعر للولادة بالعريش، عندما طلبت مني الممرضة أن أوقع على تعهد بقبولي إجراء عملية جراحية لزوجتي لأن المولودة لا يمكن أن تلد بشكل طبيعي حيث هي تحمل لعنة الأب وتولد من أرجلها، وتعرض يديها، رافضة عالما آخر لم تعهده بعد أو لم تريده، كتبت اسمي على الورقة، وكنت أعرف أن حياة زوجتي ليست في خطر، حيث لم تعد العملية الجراحية شيئا خطيراً، ولكني لم أكن في عام 1996، بل في عام 1967، كنت أنتصف للمرأة التي لو كنتها لما كتبت لها الحياة، كنت انتصف للطفلة، التي كانت ستوأد دون أن تمنح أي فرصة.

أضع اسمي على ورقة، لكي أنقذ الطفلة التي كانت ستموت لو كنتها، تلك الطفلة التي بقيت أخشى على مصيرها لو كانت مكاني وبقيت أفكر في تلك الأسئلة المجنونة، عمن أنا، وماذا كان سيكون مصيري لو كنت أخر، هل كنت سأقطع بدل من أن أولد؟ هل كنت سأنتهي قبل أن أبدأ، لأني لن أجد يداً تكتب اسمه

لتعطيني فرصة المحاولة...أمي كانت ستمنحني هذه الفرصة... لكنها الآن في غيبوبة...هما أبي وخالي من سيقرر حياتي: إذا كان ذكر ليولد، وإذا كان أنثى لتوأد....أي قانون هذا أنه قانون الغابة، إنه قانون المجتمع.

للأمومة قانون آخر، حياة زوجتي ستقبل أن يجرح جسدها لتولد شيماء، لكنها الآن في غيبوبة هي الأخرى، أنا من سيقرر ولكنني لا أحتاج إلى قرار، قراري عمره ثلاثون عاما...

ولكن أنا أقرر أو قررت منذ ثلاثين عاماً، واليوم أطبق قراري لأعيش بقية عمري الذي بلغ الستين ربيعاً .

في هذا الزمن الصعب والمجتمع المتفسخ والنظرة القاتمة الشبورية لما نعيشه ونتعايشه هنا علي أرض التين والزيتون وطور سينين .



  • حسن غريب
    عضو اتحاد كتاب مصر عضو نادي القصة بالقاهرة عضو أتيليه القاهرة للفنانين والكتاب عضو نادي القلم الدولي
   نشر في 13 يونيو 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا