للأديب العالمي "تولستوي" رأي في الطمع جسّدته قصته الطريفة "باخوم". تحكي القصة عن فلاح كان يُوفّق في حياته بين البساطة والسعادة، لولا أن الشيطان وسوس له يوما بامتلاك أرض يصبح فيها سيدا يأمر وينهى. وكلما اشترى قطعة أرض إلا وحدثته الآمال باقتناء المزيد. وفي يوم سمع من أحد ضيوفه عن قبيلة تمنح أراض فسيحة وخصبة مقابل مبلغ زهيد وهدايا بسيطة، فحزم أمتعته ورحل مع خادمه إلى هناك.

كان المبلغ المطلوب هو ألف روبل مقابل أن يمتلك باخوم الأرض التي يقطعها خلال يوم كامل، من شروق الشمس حتى غروبها، شريطة أن يعود إلى المكان الذي انطلق منه قبل أن تغرب الشمس ولو بدقيقة، وإلا سيفقد المال والأرض معا. وخلال رحلة الركض هذه برع تولستوي في وصف ما يعتمل داخل كيان الإنسان من صراع وتجاذب بين الاكتفاء وربح المزيد، حيث تمكن باخوم من تحديد قطعة أرض كبيرة، لكنه من إن بلغ نقطة الوصول حتى خرّ جثة هامدة من فرط التعب والطمع، ليحفر له خادمه قبرا طوله ستة أقدام هي كل نصيبه من الأرض.

من يقرأ مأساة باخوم يخالجه شعور بأن هذه الأرض مصيدة كبيرة؛ أم تجمع بين الحنو والدهاء. إنها عطوف على من يسعى لكسب رزقه منها بعرق جبينه وساعديه، أما من تستحوذ عليه شهوة امتلاكها، فإنها تجر به حصيرة الآمال ليقع في إحدى حفرها غير مأسوف عليه.

فهل يتعظ باخوم العصر الجديد؟

تبدو محاكم المملكة في الآونة الاخيرة مسرحا لوقائع يستعيد فيها باخوم سيرته ومسيرته. فعدد من نواب الشعب ومسؤولي الدولة يواجهون تهما ثقيلة، تتعلق بالتزوير للاستيلاء على الأراضي، وتبديد ممتلكات عمومية، من بينها طبعا أراض في ملكية الدولة. وإذا كان تحريك العدالة يؤشر على تصحيح وضع مختل، إلا أن تخليق الحياة العامة، واسترداد القيم التي تضبط توازن المجتمع، يفترض مقاربة أشمل، لا تقف عند حدود تفعيل المساطر والقوانين، وإنما تعيد النظر في فلسفة التربية الموجهة للمجتمع برمته.

إن الذات الإنسانية موزعة بين جانبي الخير والشر، وأمام هذه المسلمة يمكن القول أن سلوك الإنسان في مجتمعه يلتزم نهج الاستقامة تارة، ونهج الانحراف والفجور تارة أخرى. غير أن هيمنة أحد النهجين مرتبط في العادة بفلسفة المجتمع واتجاهاته الفكرية التي إما أن تناصر أحدهما علانية، وإما أن تترك الحبل على الغارب تحت مسميات شتى.

ولأن طبيعة الشر المتأصلة فيه تقوم على الهدم وخراب العمران، كان من الواجب أن يتعرف الإنسان أسبابه وتجلياته، ليقف منها موقفا صارما. على هذا الأساس فإن أسلوب الوصايا العشر:"لاتقتل، لا تزن، لا تسرق..." غير كاف ليُخمد الإنسان جذوة الشرور في نفسه، أو يتحكم فيها بالقدر الذي لا يهدد وجوده وسعادته.

عالج القرآن الكريم مسألة الشر باعتماد أساليب متعددة، كالموعظة، والتربية بالقدوة، كما اعتمد القصص وسيلة لكشف مآلات الشر والاعوجاج الذي يطرأ على تصورات الإنسان ومواقفه. فجاء القصص القرآني محذرا من عواقب الكبر والحرص والطمع والجهل، وغيرها من الآفات الإنسانية.

وتميزت تلك القصص بألوان من التعبير الفني التي تجمع بين الحوار والسرد، ودقة اختيار اللحظة الحاسمة لترسيخ العبرة المطلوبة في قلب السامع، بالإضافة إلى جمالية التعبير التي تحفز على المشاركة الوجدانية لشخوص القصة، إما بالتعاطف أو النفور.

لكن ما يُسجل على مقرر التربية الإسلامية في بلادنا، خاصة بعد التحيين الذي طال هندسته المنهاجية سنة 2016، أن هناك تغليبا لما سمي بالقيم الإيجابية والسلوك القويم، مما يوحي بأن الشر طارئ خارجي وليس بذرة مخبوءة في ثنايا النفس البشرية. وبهذا الشكل فإن مبدأ التوازن باعتباره حاجة دينية حقيقية، لا يمكنه أن يؤتي أكله في ظل تجاهل للشر وآفاته، وتجلياته المتعددة التي تضج بها المنابر الإعلامية صباح مساء.

عرض القرآن شخصية إبليس والنمرود وفرعون وقارون وصاحب الجنتين، وغيرها من النماذج كي يتحرى الإنسان الشر فيعرفه ويتجنبه. وجاءت السنة النبوية محذرة من اتباع الهوى والشيطان، من خلال قصص تاريخية، وواقعية، وتمثيلية تزخر بها كتب الحديث. وسار على هذا النهج كُتاب وشعراء طرقوا المواضيع الدينية والأخلاقية في كتاباتهم. فهذه" البردة" التي أولع بها المغاربة منذ زمن بعيد، يتردد في ثناياها قول البوصيري:

وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتّهم.

واليوم نشكو تراجعا حادا في القيم، وخللا في التماسك الاجتماعي، مرده إلى عدم تحقق التوازن المطلوب في بناء شخصية المتعلم والطالب، ومن ثَم المسؤول الذي يحمل على عاتقه خدمة الوطن.

يقول العقاد في مقدمة كتابه(إبليس) : "يوم عرف الإنسان الشيطان كان فاتحة خير"، لأنه لم يكن تمييز بين الخير والشر قبل أن يُعرف الشيطان بصفاته وأعماله. وبعد التمييز بينهما صار لزاما على الإنسان أن يعرف الخير الصميم ليعمله على بصيرة، فليس الخير ابتعادا عن الشر أو مخالفة فقط، وإنما هو قدرة على الحسن مع القدرة على القبح ، بمعنى أنه الاختيار المطلوب بعد التمييز بين القدرتين.