بدأت الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، و قد كانت قتالاً بين الحكومة الجمهورية الإسبانية و التي تم الإقتراع عليها في 1931 ، و القوى الفاشية تحت قيادة الجنرال " فرانكو " ، و كانت الفاشية تصعد داخل الحركة السياسية في الثلاثينيات ، فأفكارهم اليمينية تضمنت المركزية القوية للحكومة ، و النزعة المتطرفة في رؤية الكرامة القومية ، وقد حصل فرانكوا على الدعم من إيطاليا و ألمانيا اللتين يحكمهما حكومات فاشية ، مما مكنه من الحصول على زمام السلطة في إسبانيا عام 1939.
كانت الحكومة الألمانية التي دعمت فرانكو تحت حكم الحزب النازي ، بقيادة أدولف هتلر الذى رأى الحرب الأهلية كفرصة لإختبار أفكاره عن قوة الألمان التى تطورت تحت غطاء من القنابل. فالفاعلية الفظيعة للهجوم على غرنيكا و غيرها ، قد أعطت هتلر الثقة لكي يدفع بألمانيا لتصبح تدريجياً أكبر قوة في أوروبا . و أخيراً فقد ذهب لما هو أبعد من ذلك بكثير ، ففي نهاية الحرب الأهلية الإسبانية بدأ صراع جديد ، و هو الحرب العالمية الثانية ( 1939-1945 ).
في 24 إبريل من عام 1937 ، قصف سلاح الجو الألماني المدينة الباسكية : " غرنيكا " مخلفاً وراءه 1664 من القتلى ، و عدد من الجرحى يصل إلى 900 شخص . و قد ترك السكان بيوتهم و هى تحترق من ألسنة اللهب، حيث تم تدمير ميدان السوق بالكامل.
كانت حياة بيكاسو كل يوم في فرنسا تذكره بالحرب الأهلية الإسبانية. و لكن ذلك لم يكن سبب الحرب العالمية الثانية ، ففي عام 1940 تمت مهاجمة باريس و إحتلالها من قبل الجيش الألماني ، و كان بيكاسو محاصراً في المدينة و أراد إستئناف عمله و لكن مستلزماته و المحظورات قد أعاقته. و على العكس من فنانين آخرين ، فإن العروض النازية لم تغرِ بيكاسو ، فقد إستمر في تصوير لوحات ثورية رغم أنوفهم جميعاً.
تم قصف غرنيكا كجزء من تطور حدة الحرب الأهلية الأسبانية. و قد إرتعد بيكاسو لهذا الهجوم الشرس ، و إستحضر كل مشاعره لتصوير الغرنيكا.
رسم بيكاسو 45 اسكتشاً و دراسة قبل أن يبدأ لوحته الرئيسية. و لكي يعطي إحساساً تاريخياً ، إستخدم فقط ظلال اللون الأسود و الأبيض ليعطيها طابع الصورة الفوتوغرافية. و قد إستخدم حلبة الثيران كرمز لتقديم القصة المفتوحة ، فالثور يمثل الشر ، والحصان يقف بين أشلاء الأجساد كرمز لشجاعة أهل غرنيكا ، و النتيجة الدرامية هي خارج الوقت و الحقيقة ، مواكبة لرعب الحرب في أية مرحلة زمنية.
صنف النازيين بيكاسو بأنه " بلشفي متدن " ، مما يعني من وجهة نظرهم أنه كان ثورياً عديم الخلق ، و كان واضحاً أنه كره النازية من لوحته غرنيكا.
و ذات يوم لما كان الجستابو " البوليس السري النازي " قد أتوا ليفتشوا الاستوديو الخاص به ، رأى أحد الضباط صورة فوتوغرافية للغرنيكا و قد سأل بيكاسو : " هل فعلت ذلك ؟ " فقال للضابط : " لا أنت فعلت ذلك ".
و كنتيجة لسلوك النازيين كان صعباً على بيكاسو أن يستمر في عمله ، و قد استطاع أن يقابل أصدقائه أومبرواز فولار و خايم سابارتس كل يوم في مقهى ، إلا أنه قد أٌقام عرضاً صغيراً واحداً .
وقد سجله الألمان كأحد اللذين يمكن نقلهم إلى ألمانيا للعمل كعبيد ، و لكن يبدو أنه نجا من هذا عن طريق شفاعة من أحد النحاتين المفضلين لدى هتلر يدعى " أرنو بريكير " ، حيث عمل على تأكيد وجود الخامات التي يستطيع منها بيكاسو أن يبدع منحوتات ، حتى عندما كان الألمان يذيبون التماثيل المعدنية لاستخدامها في المجهود الحربي.
لقد عكست لوحات بيكاسو أثناء الحرب ما رآه و أحسه، فموضوعات لوحاته كانت تتكرر مراراً و تكراراً : جماجم حيوانات ، ونيران مشتعلة ، وسكاكين حادة ملتوية .
و في عام 1944 قامت معركة تحرير باريس ، التي دارت أيضاً حول ستوديو بيكاسو ، وفي وسط إطلاق النار و الإنفجارات كان يصور و يغني بأعلى صوته ، ليعلو بصوته على صوت الضجيج القادم من الشارع.
خلال سنوات الحرب سمع الناس بعض الأخبار القليلة عن بيكاسو و أعماله ، و عندما تم تحرير باريس 1944 كان بيكاسو معجباً بنفسه لكثرة زواه ، وخاصة الإنجليز منهم و الأمريكان ، وكان ذلك علامة على الشهرة العالمية التي حظى بها في ذلك الوقت، فقد أصبح رمزاً ثقافياً حتى ولو كشخصية بارزة مثيرة للجدل ، و عندما أقام معرضه في باريس ، كانت هناك إحتجاجات عنيفة من طلبة الفن واليمينيين المحافظين.
وقد عرضت " غرنيكا " للجمهور في يوليو 1937 ، لكن ظل موضوعها مستحوذ على فكر بيكاسو ، فعاد إليه كثيراً في الشهور التي تلته ، فصور مع حلول نهاية العام لوحة " المرأة الباكية " ، وهي أحد أهم إكتشافاته النهائية لموضوع الحرب ، فالمأساة الإنسانية بلوحة المرأة الباكية تتجسد في شخصية " دورا مار " ، فقد كانت مصورة فوتوغرافية ثم أصبحت صديقة لبيكاسو ، رسمها بالإسلوب التكعيبي مستخدماً ألواناً حادة لتعكس شخصيتها المنطلقة ، و في تباين واضح بين الألوان فصل بعنف مساحات الأبيض التي كونته دموعها ، عارضاً الموت و الدمار الذي لحق بمدينة " غرنيكا ".
وفي نهاية الحرب ، قد بدت و كأنها نهاية كابوس ، فبيكاسو قد شوهد يعاني كثيراً ويفقد العديد من أصدقائه سواء في الحرب أو في معسكرات التعذيب ، و الآن فقد تجددت حياته ، و لوحاته لا تزال تعكس الحرب ، و لكن أيضاً تعكس حالة من النظام .
-
حسام عيدمهندس مصري ، فنان تشكيلي ، باحث في تاريخ الفنون
التعليقات
المقالة جميلة و سلسلة و يبدو فبها مجهود و إخلاص واضحين. شكرا لك كثيراً على هذه المقالك القيمة.