فلسفة الذّات - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

فلسفة الذّات

إنّ الذات هي نظرتك لنفسك بكل بساطة, قبل النظر للآخرين ...

  نشر في 27 فبراير 2017  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

لا شكّ أنّ موضوع الذات قد خاضت فيه الكثير من المدارس الفلسفيّة باختلافها. لكن الأمر المهمّ الذي جعلني أتطرّق للموضوع, هو الرغبة الحقيقيّة في تفكيك كلّ تلبّس عن الذات, وجعل الأمر طبيعي جدا من خلال الانطلاق من التفسير الذاتي للذات.

إنّه من الضروري القول, أن الذات غريبة بطبعها, تتمحور حولها الكثير من الشكوك والأسئلة المحيّرة .عندما تسمع كلمة ذات يتبادر إلى ذهنك مباشرة الكلمة الواسعة, التي تتضمن عديد المعاني وما خاضه الفلاسفة الأوائل من تفسيرات حولها وغير ذلك. ممّا يجعلك تتساءل عن ماهيتها, ومحاولة التعمق فيها لفهم كل حيثياتها والظروف المحيطة بها.

عندما ترى نفسك في المرأة تكتشف مظهرك الخارجي. بمثل هذه الطريقة, يجب أن ترى ذاتك من تصوراتك, وكيفية قراءتك للعالم من حولك .

العصور التي خلت تميزت بسياسة المسلك الواحد والنور الوحيد الذي تراه, بينما العصر الحاضر يتميز بتشعب المسالك والرؤى المتعددة لأشياء بسيطة لا تتطلب الكثير من التعمّق .لقد أفرط الناس في تبسيط الأمور حتى أخرجوها عن سياقها الطبيعي, ليلبسوها ثوبا آخر .هذا يضر بشدة شخصية الفرد, التي تحتوي على قدرات عقلية وتحليل عميق, إذا كان طبعا مدروس بدقة, وليس نابع من مجرّد إحساس وقتي ينطفئ بعد دقائق معدودة.

بالنسبة لمفهوم الذات , يمكن أن نفسّرها على أنّها شخصيتك الكامنة في داخلك ونظرتك لشيء ما.

إنّ الذات هي نظرتك لنفسك بكل بساطة, قبل النظر للآخرين فإذا كنت تنظر لنفسك نظرة القادر على صنع التحوّلات وحبّ شيء ما, فإنّك ستكون صاحب ذات سامية ،عالية ،ثابتة في مواقفها ومدافعة عنها تحت أيّ ظرف يعتريها .سينعكس ذلك تدرجيّا على نظرتك للواقع ونجاحك في الصراع اليوميّ مع الكون.

أمّا إذا كنت تنظر لنفسك نظرة استصغار ونظرة العاجز الذي يحركه القلق ولا يحركه الفعل الجاد, فإنّ ذاتك ستصبح سفليّة ،ومن المستحسن في هذه الحالة, أن تقف وحدك في مكان معزول, وتراجع النظرة وتفكّك الأفكار واحدة تلو الأخرى, مع محاولة قطع الاتصال بكل شيء يثير الإزعاج من هاتف أو أي شيء يشتت التركيز. أعتبر هذه الوقفة التأملية مع الذات هامّة جدا.

لا أبالغ عندما أسميها الاختبار الأصعب في الحياة, حيث ستحدد موقفك وسط جوّ من ازدحام الأفكار, توتّر المشاعر, واضطراب النفس.

إنّ الذات تتسم بالغموض. هذا الغموض رائع في حدّ ذاته لأنّه يدفعك نحو التفكير, التأمّل والإبداع. هذا الطريق هو طريق الوصول للذات وإكتشافها .إذا وقفت عند ذلك الغموض واعتبرته عابرا , بالتغاضي عنه , فهنا قد ضعت حقا وزاد غموضك ! بكلّ بساطة نتائج أعمالك وانفعالاتك في الواقع اليوميّ هي جوهر الذات.

إنّ العلاقة مع الذات يجب أن تبنى على أساس الثقة التامّة, وعدم المراوغة لأن المراوغة, ستعطيك نتائج سلبيّة كالخضوع للمتغيرات الاجتماعية التي تحوم حولك أو تقمّص شخصيات أخرى, ونماذج ركيكة في المجتمع .يجب أن تنظر لنفسك نظرة تجعل منك مركز الكون . هذا لا يعني بتاتا الاستعلاء, بل أقول إن لم تنظر لنفسك نظرة المتميّز عن الآخر .لن تستطيع اكتشاف ذاتك وستكون عبئا على كوكب الأرض, الذي أفرط البشر فيه بصفة كبيرة في صنع قوالب متشابهة, عاجزة على معرفة نفسها أي ما تريد, و ماهية أهدفها في الحياة ؟

نحن كبشر لدينا الحقّ في أن نحبّ الآخر ، نكرهه، أو نعتبره مصدر إزعاج. لأنّ النتيجة تأتي من السبب, والعبرة دائما بالنتائج وإن كانت غير مرضية.

إنّ الإنسان مريض بطبعه وهذا المرض في الحقيقة هو نفسه الدواء أي مرض ؟

أن تحبّ قيادة كلّ شيء والتحكّم فيه. هذه الرغبة الجميلة التي تنتابني من حين إلى آخر, هي الأساس التي بنيت عليه فهمي لذاتي. فكما أنّ الآخر صانع التاريخ ومحرّك العجلات, لما لا أكون أنا صانعا لشيء ما بنظرتي ؟

إنّ فهم الذات اندثر, بسبب تغيّر صبغة الأرض من صبغة تقليدية تدور في فلك الإنسان, إلى صبغة تدور حول الآليات التي تحقق العيش الإنسان. فأصبحت العلاقة بين الذات والأداة المساعدة لمعرفة الذات علاقة عكسيّة مرضيّة, زادت الحياة تعقيدا ولم تساهم في استرخاء الروح. بل جعلت أشياء لا تنطق سيّدة في هذا الكون, والإنسان مجرّد راكض وراء رفاهية الوسائل, التي من المفترض أن تكون سببا في راحته, ودعما لقدراته الذاتية.

إنّ الذات أصبحت مكوّناتها متشابكة كخيوط العنكبوت, لأنها حملت الكثير من الخلفيّات ولعبت أدوارا فوق أدوارها. تحاصرها أسوار التفكير من كلّ الجبهات, فتقرع طبول الفزع أحيانا ولا تستطيع الهرع إلى الطريق المضيء .

إنً أخطر شيء يهدّد الذات وينحرف بها عن مفاهيمها الأساسية, هو الصراع الداخلي الذي لا تجد له إجابة ،ولا تستطيع فكّ شفراته. يجب أن تتحلّى بالقوّة الروحيّة الكامنة في داخلك, لتنتصر بها على القوة الشريرة, التي تحظى بنفوذ قوي داخل الذات ولها أنصارها.

إنّ الذات لن تستطيع الوقوف على حياد في هذا الصراع, بل هي موضع الصراع وجوهره. يجب أن نعوّد أنفسنا على التفكير في كلّ شيء ،لكن بانتظام, حتى لا يتحوّل تراكم الأفكار إلى عامل سلبي, يهدّد كياننا فنخرج عن تفكيرنا السليم والطّبيعي. يجب أن نتعلّم تقنية الاستنباط, أي استنباط الفكرة من فكرة أخرى أو عدة أفكار من فكرة صغيرة .فالعالم مركّب بطريقة تشبه ألعاب الأطفال وتحديدا لعبة المكعبات، حيث يستوجب أن تفكّك قطعة تلو الأخرى وعلى مراحل حتّى تفهم التركيبة والتسلسل المنطقي من وراء ذلك. إضافة إلى أن عامل التكرار يلعب دورا مهمّا.

كذلك الذات هي جزء من العالم, والعالم مسرحها الذي تلعب فيه. فهي بحاجة للتفكيك لكن ليس تفكيك قطع هذه المرة, بل تفكيك أفكار وأحاسيس وخواطر ... إلى جزئيّات صغيرة حتى تسهّل على نفسك فهمها ببساطة, وإيجاد التفسيرات المناسبة.

ليس المطلوب أن تغوص في الأعماق إلى أن تضيع في الطريق, وإنّما المطلوب أن تسأل أسئلة مهمّة في حياتك بصفة مستمرة وملحّة. ماذا أريد ؟ إلى ماذا أتطلع ؟ ما الغاية من الحياة اليومية المتكرّرة ؟

أسئلة رائعة ونراها للوهلة الأولى بسيطة. لكنّها بدورها تخفي الكثير من التساؤلات, فتدخلك في متاهة. لكن لنا الشرف إن دخلنا في تلك المتاهة ، فعلى الأقل نفهم ذواتنا الفهم السليم, وندخل معها في حوار بناء . من حين إلى آخر ومن زمن إلى زمن آخر, وجب التحدّث مع الذات حديثا عقلانيا بناء بعيدا عن التشنجات.

لا يجب أن ننسى أنّ الإطار الخارجي رغم رفضي القاطع لهيمنته على الذات, والانسياق ورائه انسياق الغنم خلف الراعي، لا يجب نفيه بالإطلاق فنفي كل ما هو خارج عن الذات, يولّد الحماقة في النفس, ويمنعها القدرة على الفاعليّة, التقدّم والازدهار, لأنّ الأطر الخارجيّة هي الدافع الذي يجعلنا نتطوّر. عند رؤية الآخرين والأمور كيف تتجلّى في الواقع, نستطيع أن نستخلص رؤية شخصيّة, تمثل عصارة لفهمنا الشامل ،تمكننا من بناء ذات متميزة وفريدة تستطيع أن تخلق الجديد .

لا أخفي عليكم أنّي أختلف مع الفيلسوف الألماني جورج زيمل الذي يقول أنّ للمكانة الاجتماعيّة دور كبير في تغيير رؤية الذات, حيث أرى أنّ المكانة لا تمثل أيّ قيمة بالنسبة للذات .صحيح أن الاختلافات الطبقية تؤثر, لكن تأثيرها طفيف جدّا فالذات يصنعها ويهيكلها الإنسان بنفسه لا غيره ،وبذكائه وإبداعه, يستطيع كسر قواعد الانتماءات الاجتماعية ومستويات الناس, ليصبح من السهل عليه التعامل مع الكل من دون أن يخسر موقفه .وحتى لو انتقل إلى مكانة أخرى, سواء حدث تغيّر مفاجئ في منزلته الاجتماعية, او تغيّر مقصود, لن يكون هذا سببا في تغيير الذات, بل بالعكس أرى أنّ ذاته ستتداعم أكثر, لأنّها أصبحت ثريّة من خلال مرورها بجميع الظروف المختلفة. هكذا تتشكل عنده في داخله صورة مجتمعيّة شاملة, إن لم أقل متكاملة, يستطيع حينئذ التقييم و درس المشاكل الاجتماعية والاقتصادية إلخ ...

عندما ترى الإنسان يقيّم الناس على أسس ظاهريّة خالية من معايير عقلية ومنطقية, فأعلم أنّه سطحيّ جدّا, أو تغلب عليه العاطفة الجيّاشة التي تجعله لا يرى الصورة بشكل كامل.

يجب أن نقول أنّ الذات تعرف نفسها, بمدى إكتشافها لمن حولها ،وكلّ ذات تتميّز عن الأخرى في نظرتها الحياة, رغم القواسم المشتركة. إلا أنّه إذا أردنا أن نفهمها فهما شاملا, وجب العودة إليها عودة عقليّة خالية من العاطفة, وبكل حيادية عن المواقف المسبقة .

إنّها فلسفتك الشخصيّة تبنيها كيفما تشاء, وتشكل واقعك بنظرتك أنت لا غيرك وإن كان للصدفة دور مهم في تشابه الرؤى .

فكيف ترى ذاتك بعد هذا القول، أين تضعها ؟ أين تريد أن تكون ؟ وأين تصنّف نفسك في مجتمعك وعلاقتك بالأشياء ؟

والأهم من هذا ، كيف تعرّف ذاتك تعريفا ذاتيا نابعا منك بدون تدخل من أحد ؟




  • محمد جابالله
    قارئ بشغف/ أحب الكتابة/ البحث/ لا أستطيع الكتابة إلاّ عندما أشعر أنّي غير مقيّد بشيء !
   نشر في 27 فبراير 2017  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

Jinan منذ 7 سنة
الذات ... هي المحرك الروحي للفكر البشري ..
فأن كانت الذات من نبع صالح ..سقت الروح والجسد فنبت نبات صالحا
كان له عبير النجاح وعطر الخلق ..
وأن كان النبع مغموس بالفشل وقلة الحيلة ..نمت على الأضمحلال في واقع
لا يوجد فيه بصيص نور ..

مقال رائع
سلمت ودمت
1
محمد جابالله
شكرا لمرورك الجميل
Jinan
العفو ..أسعدك الله أخي

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا