كان هناك حين رأيته أول مرة ، كأي طفل لم أنتبه لوجوده ، خرج مسرعاً من بين أصدقائه بعد هاتف عاجل ، إلتفت إليّ ووضع بين يدي حلوى أعطى منها طفلاً آخر كان بجانبي ، ثم أكمل طريقه إلى الخارج ، جلستُ أتأمل الحلوى للحظات ، ولم أفق من سرحتي إلا على ركض زملائه نحوه حين صدمته سيارة مسرعة قرب الإشارة .. ، لم أكن أفهم ما يحدث ، لكني تذكرتُ يداي وهي تقبض على الحلوى بشدة ، وشعوري الغامر برغبة في إعادتها له ، لقد راودني الندم وشعور الذنب لأيام طِوال بأنني كنتُ سبب ما حدث ، لو ذهب مسرعاً لكان أسرع بزمن ضئيل قبل السيارة و عبر نحو الجانب الآخر ،مكثت على هذا الحال فترة حتى نسيت ، وألهتني حلوى أخرى ..
بعد 12 عاماً اصطدمت كتفي بكتف رجل في محطة الباصات ، اعتذر مني وأكمل طريقه ، شعرت لوهلة أنني أعرفه ، وكان هذا الشعور مختلطاً بوجع صغير في وسط الصدر ، ذاكرة السمكة لم تسعفني في التذكر الا بعد عدة أيام ، وياللغرابة ، لقد كان يشبه ذاك الشاب الذي صدمته السيارة شبهاً أدرك فيه تقدم العمر ، وربما أكون مخطئة ؛ لكن هذا الشبه جعلني أبكي كثيراً ، لقد صرتُ لأول مرة بريئة من دم ذاك الفتى المسال على الأرض وأصوات رفقائه من حوله ، بريئة من صدى صوت الاسعاف وصراخ امرأة ف الجوار ، أو هكذا...ربما سكنت روح الطفلة في داخلي ، تلك لا يمكنها أن تقتنع بشيء حتى تراه بعينيها، التي ما زالت تقبض على الحلوى بين أصابعها خوفاً و تطأطئ رأسها خجلاً ، ولم تذقها ..
محظوظ من يستطيع تذكر شيء من طفولته بنضج حالهِ الآن ، حتى يداوي هذه الشوائب التي نَمَت معه .. فـ يوماً-قريباً- لن يعود من الممكن تذكر كل التفاصيل، تصغر مع الوقت، تتضاءل، تتلاشى في النهاية، ونضيع .
في كل يوم يمر تلتقط أرواحنا فوبيا جديدة، لتضاف إلى الأخريات ، لكن لا شيء يشبه آثار الطفولة وأفكارها ، حتى لو كنا نقسم أمام براءتها أنها ليست بشيء ، لكنها في بعيد الذاكرة هناك تظل تتسع وتكبر ، ونكبر معها ، نشبه كل شيء فيها ، لكن بنضج ظاهري ، لا أكثر ..
كان يتوهم بأنه البطل ولكن الذي حدث بالضبط هو أنه لعب دور الشرارة، كان يُخيّل إليه بأنه يسمع إسمه يتردد كسبب في كل مايدور ويحدث . ياللمسكين !
ليس لديه مايُدهش ولكنه مندهش على الدوام ، وهذه الخصلة تحديداً كافية تماماً لجعل حياته كحياة الأطفال، مزدحمة وباسمة ومليئة بكل معنى..
أنا وأنت لا نتغير، نحن فقط نراوغ مصائرنا ، نغيّر أسماء ما نشعر به ، نتلاعب بالمجاز وبالألفاظ والخرائب واحدة، بنفس الأرواح المثقوبة والموهومة، هكذا نخال أننا كبرنا ..
أطلب منك أن نلتقي في نهاية هذه اللعبة، فلنتحدث قليلاً ونضحك، نشرب نخب هذه الأنقاض، نتذكر الأيام اللاذعة كطفليْن ، ثم يمضي كل منا إلى خرابه مجدداً..
.. مارأيك؟.
د . نورهان عزت
طبيبة أسنان وكاتبة فلسفية