بعينين شبه مفتوحتين وكلمات متناثرة تخرج من فمه بشكل غير منتظم كان يستفيق المريض من التخدير، يشير بإصبعه إلى موضع العملية ويخبرني بجمل مبعثرة ممزوجة بأنات عميقة أنه يشعر بالألم، سألته كعادتي دوما قبل أن يغادر أي مريض المركب الجراحي إلى المصلحة التي جاء منها أن يقيم لي ألمه على مقياس من واحد إلى عشرة (حيث يعبر الرقم 1 عن ألم خفيف ويعبر الرقم 10 عن ألم شديد جدًأ) ... كنت أفعل دوما ذلك بشكل روتيني كردة فعل ميكانيكية، اليوم بعد أن غادر المريض وقفت مع ذاتي أتساءل بجدية ( كيف لنا أن نقزم تجربة كالألم ذات أبعاد حسية وعقلية وعاطفية وروحية..في تقييمات سريرية بسيطة كهذه تنتهي غالبا باستخدام مسكنات تخفف حدة الألم بعيدا عن تقييم قدرة المريض على توليد استجابة خاصة به لهذا الألم مثلا؟! )
صحيح أن للألم فيزيولوجية محددة يتم تدريسها كأي عملية بيولوجية تحدث في جسم الإنسان، إلا أن تجربة كالألم اذا ما تم النظر إليها من زواياها الحسية والروحية أو حتى الاجتماعية فهي أكثر تعقيدا عما نعتقد. ولعل أكبر دليل على هذا هو تطور مفهوم الألم عبر التاريخ، ما قبل ظهور الحداثة كان الألم يحمل دلالات دينية اكثر من ما هي حسية، كان ألم الدورة الشهرية أو حتى آلام المخاض بمثابة تذكير للمرأة بالخطيئة التي ارتكبتها حواء .... ثم تم العمل على هذا المفهوم من طرف مفكرين وفلاسفة حداثيين وصفوا الألم كتجربة تعيش في الجسد بينما المعاناة المصاحبة لذلك وحدها من تكمن في العاطفة والقلب ...
اليوم الألم لم يعد تلك المركبة التي يتم تدارسها من طرف العلوم الطبية أو البيولوجية فقط .. وإنما أصبح اليوم مفهوما تلتقي عنده عدة فروع معرفية ، فها هي الدراسات الاجتماعية والانثربولوجية تؤكد أن الألم ظاهرة اجتماعية أيضا تتأثر بالبناء الاجتماعي والموروث الثقافي والتاريخي حسب كل مجتمع، فمثلا الإحساس بألم الجوع يختلف من شخص صائم بنية الأجر إلى شخص لم يجد طعاما ليأكله وهكذا دواليك... وبهذا أجد أن اختزال الألم في بعده العضوي هو ارتكاب لخطأ جسيم في فهم تركيبة الإنسان. المعتقدات والقيم والمؤسسات لها أيضا نصيبها في تشكيل الوعي بتجربة الألم، ولهذا قد يعزى تباين قدرات الإنسان الفردية في تحمل الألم.
أعلم أن إدارة الألم أمر ليس بالسهل، لكن الأمر قد يكون كذلك عندما نبدأ بالوعي التام بأن حياة البشر لا تخلو دوما من الألم وأن إدارة هذا الأخير قد تتدخل فيها عدة عوامل اجتماعية ونفسية وثقافية.. لها نصيبها في مدى قدرة الإنسان على التحمل والتعايش مع الألم.
ولربما سيكون أحسن بكثير لو استبدلنا تقييم (الواحد إلى عشرة ) إلى أسئلة تقيم مدى تحمل المريض للألم وتحليلها داخل سياقه الاجتماعي والثقافي قبل الهرع إلى إنهاء مسكنات في طرف وريده كرد فعل ميكانيكي.
-
نهيلة بلديمدونة متطفلة !