كان واقفاً هناك صامتاً مطأطئ الرأس، بينما موظف الأمن منهالٌ عليه بأقذع الشتائم والألفاظ وكأنه وجهاً لوجه مع قاتل طفله أو مغتصب زوجته ..
المراجعون -طبعاً- يشيحون ببصرهم بعيداً لئلا تلحقهم شتيمة من شتائم ذاك الموظف الذي بدا مستمتعاً بسيمفونية الشتائم التي لربما قد حفظها وبدأ يلحنها لكثرة ما ألقاها كقصيدة عصماء على كل مراجع يأتيه دون ختم الإدارة ..!
تصور أنهم يقلقون راحته ويقطعون عليه لعبة الكاندي كراش التي وصل إلى مراحلها الأخيرة بمعاملاتهم البالية واوراقهم المهترئة التي عافتها أيدي الموظفين لقذارتها؟!
لربما لا يدري الموظف أن المعاملات لا تبلى ولا تتعفن إلا في أدراج مؤسستهم الأمنية ذات الكفاءة العالية التي أشرف على افتتاحها المدير بنفسه.. أو لعله يدري، لكنه على أية حالٍ يجد في ذلك عذراً ليتسلى بإفراغ ما تستحضره ذاكرته من شتائم وألفاظ كان قد تعلمها في شارع ما عندما كان في العاشرة، يوم كان هؤلاء المراجعون الحمقى يأكلون الكتب طمعاً في درجة عالية ومنصب رفيع .. مساكين أم حمقى لا يدري، لكنه يعرف تماماً أن من كان عمه في سلك الجيش فلا يخاف بخساً ولا رهقا ..
لم يكن أي من ذلك يدور في خلد المراجع المسكين مطأطئ الرأس ..
كان قد عود نفسه -كما علمه أول موظف أمن قابله يوماً- أن يصم أذنيه ويغلق فمه ويفكر في أمور أخرى ريثما ينهي الموظف نوبته الهستيرية التي أصبحت -بحكم العادة- جزءاً طبيعياً لا يتجزأ من مراجعات ما بعد الظهر للموظفين المتعبين المساكين.
كانت قصائد محمود درويش عن العروبة وأغنيات نزار قباني عن الوطن الجميل -التي حفظها عن ظهر قلب يوم كان في العاشرة- تحترق واحدة تلو أخرى داخل عقله المثقل بهموم الحياة في هذا الوطن، لكن حريق هذه القصائد كان بارداً كالثلج، لا نار يشعلها في صدره ولا غضباً ولا أسى .. لا يزيده إلا تبلداً واستمراءً لهذا الحال ..
كان أحياناً يفكر، أن ما أرعبه لم يكن يوماً الظلم ذاته، الظلم قد يرفعه فتىً غاضبٌ في ساحة حرب أو محامٍ عبقري في ردهة محكمة ..
المرعب حقاً كان التعودَ على الظلم واستمراءَهُ، واعتبارَهُ جزءاً طبيعياً من عجلة الحياة .. كما ألم المفاصل عند العجائز .. يزعجهم في البداية، يبحثون عن طبيب، علاج، ترياق قد يسكن الألم .. لكنهم مع الوقت يعيشون معه ويألفونه، يوقظونه معهم كل صباح، يشربونه مع الشاي بعد الظهيرة، ويغنون له في السرير قبل النوم ..
كان يسأل نفسه أحياناً -عندما تطول نوبة الموظف-، أين ذاك الوطن الذي تغنى له محمود درويش؟ ألم يأت يوماً إلى دائرة الأمن بمعاملة دون توقيع الإدارة؟ ألم يقف يوماً صامتاً مطأطئ الرأس بينما موظف الأمن منهالٌ عليه بالشتائم؟ ألم يلحظ أعين المراجعين وهي تتحاشاه لئلا تلحقهم شتيمة من شتائم ذاك الموظف؟ في أي جزء من تراب هذا الوطن عاش ومن أي دائرة أمنية استلم ختم تصريح شراء دبوس الخياطة؟!
تذكر فجأة أن محمود درويش ونزار قباني كتبا هذه القصائد بعد سنوات من خروجهم من بلدانهم واستيطانهم بيوتاً منحتها البلاد الأوروبية ..
يبتسم في صمت،
بينما موظف الأمن منهالٌ عليهِ بأقذع الشتائم والألفاظ وكأنه وجهاً لوجه مع قاتل طفله أو مغتصب زوجته ..
-
محمد بكريأكتب لي، لنفسي، لذاتي ولروحي، ثم لكم.
التعليقات
ليتك تعيد الصياغة بما يغنيك عن بعض ما ورد من تكرار. لك حبي.