إستخدام التكنولوجيا تكتيكيا
الحوكمة و التكتيك
نشر في 20 ماي 2015 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
تسود النظرة القصيرة ألاجل عالمنا بشكل ملفت ، فتتحكم بقرارات الأفراد و تتعداها الى المؤسسات و الأنظمة ، حتى إنتشرت ظاهرة "العيش تكتيكيا" ، حيث تكون ألأهداف مرحلية ، فتتعدد موجات الصعود و الهبوط ، وتنتهي الرحلة دون الوصول الى مستقر .
ينطبق هذا الحال اليوم على إستخدام التكنولوجيا في المؤسسات ، حيث أصبح فضاء التكنولوجيا مباحا للجميع ، فصار موظفو التكنولوجيا يستمعون تكتيكيا ، عندما يدلي الكثيرون بأرائهم و يعددون مشاهداتهم، و يعرضون قائمة أحلامهم ، ضمن طلبات متكاثرة و خيارات متزايدة ، فيلجا موظفوا ألأعمال أو التكنولوجيا الى تحقيق اهداف مرحلية ، تبعا لمراكز القوى و دون دراسة معقولة ، أو إختبار سليم للفكرة ، فتتراكم المنتجات و يتناقص التكامل فيما بينها و تصبح إدارتها صداعا لا يزول.
و برغم الدهاء الذي يتطلبه إستخدام التكنولوجيا تكتيكيا لتحقيق ألأهداف المرحلية ، فإن النتائج كارثية على المدى البعيد ، و سينهار اي بناء تكتيكي يوما مهما بهر الناس جماله ، و حينها لا بد أن تنتشر الفوضى، ذلك ان البناء كان بلا اساس و لم يكن التغيير منهجيا و لا الهدف واضحا ، و إذا لم توظف التكنولوجيا لتفيد مستخدميها و تخدم أغراضها البعيدة و القريبة ، قد "يحن الناس الى هاتفهم الغبي" ويتمنون العودة الى عصور ما قبل التكنولوجيا و ألأجهزة الذكية.
و على الجانب الآخر يقف قليلون ممن يسمون بالحالمين ، يصطفون عكس التيار و هم اصحاب الإستراتيجية التي لا تتزحزح ، يرسمون طريقا جميلا يوصل الى الجنة التكنولوجية ،يدرسون فيه كل جزء وجزئية ، يحللون و ينظرون و يتناظرون ، حتى تكون الطريق بزعمهم واضحة وضوح الشمس ، وكأن التكنولوجيا تنتظر ، أو أن الحياة بلا متغيرات ولا عقبات والنتيجة مضمونة .
و لما يبدأ هؤلاء السير على طريق الحلم الذي رسموه بعد جهد ، وهرموا من أجل لحظة بدء المسير عليه ، فإذا بالتكنولوجيا قد تسارعت ، و معالم الطريق قد تبدلت ،ويكتشف الحالمون بأنه قد فاتهم القطار ، فمن السائرين من يعاود رسم الطريق و منهم من يضل ، و بعضهم يدركه اليأس ، و آخرون ينفد وقود حياتهم في طريق الرحلة ، و يظل توظيف التكنولوجيا حلما لم يكتمل.
ولأن " الرجال كمئة الإبل "، يوجد عدد قليل ممن يمزجون بين الإستراتيجية و التكتيك ، فيعرفون هدفهم جيدا و لكنهم يعرفون أن الطريق مليئة بالعقبات و المتغيرات ، فيسيرون باناة شديدة يتبصرون معالم الطريق ، ليتجاوزوا كل عقبة و يواكبوا كل جديد، وهم يملكون منهجا واضحا يعينهم ان يسلموا الراية متى صار ذلك واجبا ، وهؤلاء هم متخصصوا التكنولوجيا الذين يستطيعون قيادة الزمام الجامح .
يقف هذا المقال مراقبا من قريب ، يعرض ثلاث تكتيكات أو ظواهر ، ثم يقدم حوكمة التكنولوجيا كمنهج يزرع ألإيمان أولا ، ويساعد في رسم إطار واضح لتحقيق إستراتيجية فعالة ، وتوجيه جميع المهتمين للتعامل مع التكنولوجيا ، لأن المعرفة وحدها لا تكفي ، وكذلك التكنولوجيا ، فإن " ألأحمق أحمق و إن منحته كل الأدوات " ، وقد قال أينشتاين يوما "أخشى ان تحولنا التكنولوجيا الى مجموعة من الحمقى" و أنا "أخشى أن تحولنا التكنولوجيا الى مجموعة من الغرقى" إذا لم نحسن إستخدامها فنغرق في طرقاتها و أوهامها أكثر مما نستفيد من حسناتها .
المظهر و الجوهر: يدخل كثير من الناس الى طبول جوفاء ، ويظلون يرددون نفس الإيقاع ، ويطلقون مصطلحات لا يفهمونها هم انفسهم ، ليوهمو الناس بعلمهم الغزير ، حتى ينخدع بهم بالبسطاء ، و يتظاهر بالإنخداع بهم أصحاب المصالح و المتسلقون ؛ ليستخدموهم أدوات تكتيكية ضمن مرحلة ما ثم يلقون بهم متى أرادوا ، و يكشفو عن جوهرهم الرديء و ضحالة فكرهم ، ومن هؤلاء بعض مدراء ألأعمال الذين يخطفون مصطلحا تكنولوجيا و يريدونه قيد التنفيذ في اليوم التالي ، وكأنهم وحدهم يعلمون الحقيقة و يتمسكون بالعصا السحرية.
وهم لهذا يستخدمون مبدأ "الوظيفة و التوظيف" فيستخدمون التكنولوجيا و موظفيها كأدوات عند الحاجة ، يجمدونهم حينا و يفعلونهم آخر ، لترويج أفكارهم دون إعتبار لوصفهم الوظيفي ، ولا حسبما تقتضيه التكنولوجيا أو مصلحة المؤسسة، وهم في الواقع يوجهون كل ألأدوات و ألأفعال طبقا للهوى ، ويصدرون في كل مرة بريقا للخداع ن ليعبروا عن النتائج الوهمية و ألإنجازات المصطنعة.
ألأمانة و التأمين : يعمد بعض موظفوا التكنولوجيا الى الموافقة الدائمة على جميع رغبات الإدارة ، فلا يعرفون إلا قول "آمين" ، و أن يثنوا على عبقرية الفكرة و هم لا يعلمون ، وأحيانا وهم متيقنون من عكس الحقيقة ، وبعد ذلك يبدؤون المناورة لتخفيض سقف التوقعات ، ونقل صورة واقعية بعد أن حصل الضرر ، و تعذر الإصلاح حتى يصيرمشروعهم التكنولوجي في منتصف الطريق ، لا أرضا قطع ، ولا ظهرا أبقى ، وتصيبهم السهام من كل جانب، و يصير لزاما على موظفي التكنولوجيا "مصارعة النيران" في كل إتجاه في محاولة للإبقاء على شيء من الإنجازات ، وبالتأكيد فإن هذا السلوك لا يتفق مع الأمانة المهنية، ولا يصب في مصلحة المؤسسة .
وبالرغم من أن للحقيقة نداء ظاهرا و للتكنولوجيا صوتا يتبينه كل ذي حس نشط ، يعرف به المقبول من غيره ، فأن إباحة التكنولوجيا للجميع ، وإنعدام الأفق و ضعف موظفي التكنولوجيا أحيانا، شوش الصورة فظهرت حالات من " الولاء المتنازع " بين الرغبة في نهوض المؤسسة عبر تحول تكنولوجي متميز ، و بين طاعة أصحاب الهوى و النفوذ ،وهكذا يصير موظفوا التكنولوجيا قطيعا يسيره أصحاب النفوذ حسب أهوائهم ، فتنشأ بينهم طائفة من المنتفعين أو الجهال ممن لا يستطيعون السير ، وتكبلهم تكنولوجيا مرحلية أو متقادمة تم إستخدامها تكتيكيا ، فصاروا كمن يحرق الف دينار للبحث عن قرش واحد.
المجازفة و المضمون : بعض مدراء الأعمال يظنون ان الأمور التكنولوجية لا مجال فيها للخطأ أو التجريب ، فهم لا يتقبلون أية مخاطرة ولا يشكون في ان ألأمور يجب أن تسير على ما رسموا أو ما إشتهوا ، وأن تؤتي ثمارها غير منقوصة ، و لأن هذه مخالفة جسيمة للحقيقة يعلق هؤلاء في شباك عنكبوتية لا يستطيعون الخروج منها ، وعندها يكثر الطنين ، حتى لا يمكن تحقيق اي مطلب إلا بكثرة الترداد ، ويصير موظفوا التكنولوجيا طيورا طنانة لا تتوقف عن الضجيج لتحقيق بعض غاياتهم في طريق مشوش و مختلط ، و ينتج من هذا الوضع "لقطاء التكنولوجيا" الذين أنتجتهم علاقات مشبوهة و أسباب تكتيكية و أهداف مرحلية ، فيكون مصيرهم غير معروف و الهدف من وجودهم غير ظاهر ، و يظل توظيف التكنولوجيا حلما لا يتحقق بالرغم من كثرة الفوضى و الطنين.
وتقف الحوكمة منهجا مبنيا على أعمدته الأربعة متمثلة في الشفافية و حق المساءلة و العدالة و المسؤولية ، لتجعل للبناء التكنولوجي بابا يحدد مدخله ، وسورا يبين فناءه ، تماما كباب المنزل وسور الحديقة اللذان يجعلان للبيت حرمة من ممتلكات الغير دون أن يشكلا جزءا يذكر من البناء ، وهكذا الحوكمة إذ تبين الهدف ، و تحدد الأطر العامة ، و تترك التفاصيل لتنضج خلال البناء و تستجيب للمتغيرات وتتجاوب مع خصوصيات المؤسسة، إذ لا يمكن تصور البناء التكنولوجي كاملا منذ اليوم ألأول بينما يتغير الزمن ، و يخرج كل يوم منتج جديد و يزول آخر، وهكذا فإن الذين يريدون ان يروا النتائج من بذور مزروعة في الهواء ، و يريدون منهجا مقننا بينما لا يعرف الناس حوكمة التكنولوجيا و لا يقرون مبادئها ، هم ممن يستخفون التكنولوجيا و لا يوقنون بقدراتها الحقيقية.
تساعد الشفافية في تخليص موظفي التكنولوجيا و مدراء الأعمال من سلوك "نعرف و نحرف" عندما يعرف هؤلاء الطريق السليم ثم يتظاهروا بعدم المعرفة ليسيروا على الطرق الأسهل متجاهلين الطريق القويم أو ليتجنبوا التصادم ، وتمنع الشفافية " إعادة تسمية المسميات" إذ يقوم بعض الموظفين بتغيير ألأسماء و المصطلحات ، فيسمي ألأشياء بغير مسمياتها ،حتى يخضعها لتفسيره أو ينسبها لنفسه وربما حتى يدعي لنفسه حقا ليس له فيصيرها من أملاكه ، وتمنع الشفافية "تقعيد القواعد" وتمنع من ينشؤون قاعدة لكل ما يقومون هم به ، ثم ينسبونها للعلم و المعرفة و يؤطرونها في معايير عالمية ، وهي في الحقيقة لا تمت الى أي منها .
وتحقق المسؤولية جاهزية البناء التكنولوجي للطوارئ ، فلا يتردد موظفوا التكنولوجيا في إضافة المتحكمات و جاهزية ألأنظمة للتغيير و الطوارئ وإن قلت حالاتها ، فإن نظام الحريق يبنيه المهندسون ويتفحصه الفنيون دوريا و الكل يرجو أن لا يستخدم على الإطلاق ، وترفع المسؤولية شعار "أحسنت الدخول فأحسن الخروج" ضمانا لتحقيق بناء متجانس من لحظة بدايته حتى خروجه من الخدمة مرورا بتشغيله و تطويره.
و تضمن العدالة وجود نظام لتحفيز الموظفين إما بالإيمان أو بالمال أو الحلم حتى تستخدام التكنولوجيا لتحقيق أهداف المؤسسة ، بعيدا عن نظرية "القاتل و المقتول" حيث يسعى بعض مدراء األأعمال الى قتل موظفيهم و عملائهم ، فيحثونهم على التقوقع في زاوية واحدة بدلا من نشر المعرفة و التحفيز ، فلا يجيدون إستخدام التكنولوجيا و لا التعبير عن أفكارهم و متطاباتهم ، فيما يصنع القاتل من نفسه بطلا بإستخدام التكنولوجيا لتحقيق أغراضه هو فقط ، حتى يبدو للناس كمن يعرف كل شيء.
وتبلورالمساءلة آلية مناسبة تضمن إستخدام التكنولوجيا ، في الزمان و المكان الصحيحين ، فتمنع من يشترون الحاسبات و الوحدات الطرفية ، قبل ان يؤسسوا الشبكات حتى إذا تم التشغيل بعد التأخير صار لزاما إعدام الحاسبات القديمة و إستبدالها دون أن تستخدم . كما تقضي المساءلة على ظاهرة "الإستحلال" حيث يصنع البعض لنفسه تفسيرا متغيرا يعينه على الدفاع عن فكرته الخاطئة و تروجيها كما لو كانت الأفضل و الأجدر بالتطبيق ، سلاحهم في ذلك الصوت العالي وكثرة الطنين.
-
محمد علي شعلانخير الناس يحفزهم الإيمان، بينما الآخرون يحفزهم المال او الحلم