إلى غابرييل، الأخيرة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

إلى غابرييل، الأخيرة

الأخيرة..

  نشر في 23 شتنبر 2023 .

" الغربة هي أن تسافر بعينيك بين الوجوه الحاضرة، فلا يبصر قلبك سوى ذلك الوجه الغائب..."

                          محمود درويش

آخر يوم بأغسطس التعيس 2023

السابعة تماما من آخر مساء أحمل به قلمي، و أي شجاعة تلك التي نملكها ونحن نُعدم مشاعرنا فوق أوراق طالما استدرجتنا عند عتباتها.

أقف خلف بلور النافذة وأحاول الإمساك بأطراف مساء يستعجل الرحيل.

أسراب من الطيور تحلق بسماء هاته المدينة، تجوب أرجاءها مغردة، وكأنها تحاول أن تودعها على طريقتها، صعب هو الوداع، ثقيلة ومزدحمة هي حقائبة.

أسابيع تلك التي تسربت من قارورة الزمن

لم تكتب شيئا، ولم أكتب شيئا ..

تركت قلمها، ولم يسعفها قلبها بأن تطرق مسائي بحرف وداع، بتسجيل أخير تخترقني به وتهدم ما بقي من جدران الإنتظار المهترئة بداخلي.

ولو أن الإنتظار والرحيل والوداع سيف حاد يمر علينا ببطء، ويسلبنا كل ماض جميل عشناه، كل نفس أخذناه بقرب أحبائنا، الإنتظار يجعل من جل الذكريات الدافئة آلاما تكبر معنا و فينا ...

أنا مثل السمكة المعجزة التي استطاعت التأقلم و العيش خارج الماء، أتخبط اليوم في رمال العجز والخوف والندم والماضي بعدما أدركت حقيقة اليابسة ووجع التأقلم خارج محيط لا يناسبني، عاجز عن الرحيل وترك يابسة أوجعتني، عاجز عن العودة للداخل بقفزة واحدة بأعماق محيطي .

أذبل وأموت ببطء.

ما أصعب أن تكون كل الأنفاس التي نجهد أنفسنا في أخذها لأجل اللاأحد...صعب جدا

لم أكتب منذ أسابيع، لم أشاركها فرحتي، ربما لم أكن سعيدا كثيرا، فلا تكتمل فرحتنا في غياب البعض، لانعانق إلا ظلالهم وخيالاتهم، لا نعانق الحاضر بقدر ما نستحضر الماضي و نصنع من كل قطعة منه مشهدا مكتمل المعالم، مثل صورة ميتة لانبض لها.

اليوم استلمت أوراق تعييني بإحدى المؤسسات وسأباشر العمل بعد أسابيع..

لست سعيدا إلى ذلك الحد الذي يظنه الكثيرون، من العسير أن تنزل بسقف طموحاتك نحو الأسفل، من الصعب أن ترضى بالقليل وأنت بحاجة الى الكثير الكثير ...

متعب بعض الشيء، وربما مشوش ومبعثر ..

الهواء عليل هذا المساء يلامسني من الداخل، يحرك مشاعري ويتلاعب بتوقيت الحنين بقلبي .

لقد عزمت وبعد صراع طويل أني لن ألمس ظرفا بعد اليوم، لن أقتل حرفا بقلمي.

أردتها أن تكون الرسالة الأخيرة، كمحاولة للتعافي، أو سمّها كما شئت .

ولو بعد تردد كبير وتخبط في عذابات لا نهاية لها، قررت ان أرمي بكِ ببئر النسيان حيث لاقاع لتُلامسيه، لا سطح لتطفين فوقه، أن أهجر الأماكن، أن أتوقف عن الركض نحوكِ، أن أبحث عن عقار يخلصني منك و من ذاكرة لا تفعل شيئا غير تقديس رحيلكِ، أن أجمع كل التفاصيل عني وعنكِ وأحرقها، أن أهجر كل الزوايا التي لا تكف عن حجزي خلف أبوابكِ، ان أفجر المطار والطائرة وأحطم الهاتف وأغادر وأختفي مثل سراب من طرقاتك..

وكأن شيئا لم يحدث، كأني لم اعرفك، وتظاهري بدورك انك لم تعرفي أحدهم بهذا

الإسم ..

مُرّي على إسمي مثلما يعبر النسيم أزهار الحديقة دون أن يعصف بها، يهزها ببطء ويغادر، دون أن يسلبها عطرا أو أوراقا أو حياة..

لا تتعثري باسمي، اقفزي فأنت يا صغيرتي تجيدين ذلك كثيرا .

مُرّي علي مثلما يمر القطار بسكته، دون ألم وكأنه أمر عادي و إعتيادي..

مثل نشرة مسائية أو جريدة ملطخة بالأخبار الكاذبة، أو متشرد بقارعة الطريق مرّي عليّ، على إسمي وصورتي، على حرفي و آخر أغنية شاركتها معكِ.

دعي فيروز تغني، وتمجد الشتاء، و لا تقاطعيها، فلا علاقة لها بتقلباتنا الجوية، لا علاقة لها بالجفاف الذي ضرب أراضينا .

لامزيد من الألم من الحنين من الشوق..

لا مزيد من الانتظار، من غيبوبة الحب..

سأستيقظ بالغد أخيرا و أنا لا أعرف ما الشيء الذي يؤلمني؟

أو لماذا يوجعني قلبي؟ سأستيقظ دون أن أتذكر أني صادفت وجهك أو التطمت بروحك ذات يوم ...

سأستيقظ مثل كل طفل عادي ولد قبل أسابيع، أغسل وجهي وانظر للشخص المختلف بالمرآة و ابتسم .

لم أعد أذكر أني ارتطمت بك ذات صيف..

لم أعد أذكر شيئا يا غابرييل ..

ولكني أدرك جيدا أني و إن نسيتك وتعطلت دواليب الذاكرة، سيضل قلبي يتذكر جيدا أنه أَحَبك وخَفق ذات يوم لشيء جميل ومقدس يشبهك ..

بهاته اللحظة الفاصلة يستحضرني ما قاله الأديب غابرييل ماركيز حين فقد ذاكرته في آخر أيامه ..

قال لصاحبه وهو بجانبه " أنا لا أعرفك، لكنني أعرف أنني أحبك .."

يؤسفني أن ينتهي بنا الطريق قبل أن نقطع به أول خطوة، يحزنني أن تنتهي قصتنا على هذا النحو الكئيب الذي لا يشبه أي قصة عاشها إثنين .

هي مأساة بكل التفاصيل..

لن نلتقي، لن نتحدث بعد اليوم، لا أدري كيف سأمضي أو أي طريق سأسلكه للعودة؟

ولكني سأمضي وحسب وأنا موقن أن الوقت والسنوات لن تكون كفيلة بطرد أحدنا للآخر من عقله وقلبه، وتفاصيل يومه، و إن حاولنا.

حتى و لو حاول كل منا إعادة طلاء ذاكرته، أو الغرف بقلبه بألوان أخرى لم نعتدها، فلن ننسى.

إعتني بنفسك يا صغيرتي.

ربما هو هكذا قدرنا، هو هكذا نصيبنا أن نكون لبعض دون أن نكون.

المخلص

آرثر 


  • 2

  • Abdelghani moussaoui
    أنا الذي لم يتعلم بعد الوقوف مجددا، واقع في خيبتي
   نشر في 23 شتنبر 2023 .

التعليقات

سناء لعفو منذ 7 شهر
"أن نكون لبعض دون أن نكون" رائع كعادتك، دام الإبداع
1
Abdelghani moussaoui
يسعدني مرورك الرائع دائما، أشكرك

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا