المحلل الهاتفي! - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

المحلل الهاتفي!

  نشر في 28 يونيو 2018 .

احتسى قهوته رشفة تلو أخرى بنشوة، وانطلق يسرد عليّ أحداث اليوم العالمية وتحليلاته السياسية لها وأبعادها الخطيرة، هذه الكلمة التي تلازم كلماته بوثيرة متتالية، فمن أخبار محلية يعرج على اشاعات عدّها حقائق ثابتة وانطلق لقضايا دولية بلا تسلسل بينها، وكلما واجهته بحقيقة ادعاءاته وزيف حقائقه، يستسمحني عذرا لدقائق ويظهر لي الخبر او التحليل المدعى عليه من هاتفه، أسميه محلل زادُه هاتفه الذكي، فإن حرمته من هاتفه لا شك ستنخفض تحليلاته وسيسترسل في قضاياه المعيشية وحوارات الحد الأدنى.

مؤكد أنني لست وحدي من يعاني من أمثال هذا المحلل الاستثنائي؛ سادة زماننا بهواتفهم الذكية، سلاحهم الفردي ومصدر أسراراهم وقوتهم النقاشية الحاسمة، قد يكون فردا من عائلتك أو صديقا أو مجرد فضولي شاءت الصدف أن تتقاسم وإياه فضاءا عموميا، لكنني أجزم اننا تعاني منهم في كافة اقطارنا العربية البعيدة، لكأنّهم جنس مستنسخ موزع بعدالة على رقعتها.

عمليا، لا يكفي أن تناقش أو تستمتع لتحليلاته أنت مُطالب بذلك، وإن كان ما يستعرضه هنا وهناك يمكن إقحامه في خانة التحليل، وهو منه براء، فالتلاعب بالاستعارات لا يجعلك شاعر، كما أن التلاعب بالأموال –خاصة العامة- لا يجعلك مستثمرا، فالتلاعب بالكلمات والمفاهيم أيضا لا يرقيك محللا. سيستدرجك للاستماع اليه وسيُلح عليك مشاركته النقاش، وستسقط في حبال خطابه لتضطر لمحاورته، وسيفرض عليك التأكد من صدقية تحليله، أي كُلّ كلامه وصوره المؤرشفة بهاتفه، وكل خطوة اعتراض على دلائله ستُصنّفك في خانة المنهزمين الجاهلين وفي أحسن الاحوال المغضوب عليهم. من موقعي، غالبا ما أستسلم وأغادر بسرعة بلا وداع، أو اكافح مضطرا للاستماع لجدله الزائف الى نهاية بطارية هاتفه.

يستند تحليل هذا الواقع لمؤشرات كثيرة رسمت معالم هذا المحلل؛ إنه ثمرة سنوات سابقة، كانت البداية برسالة تختم بعبارة "انشرها ولك الاجر" يعود لها الفضل في النشأة الأولى لهذه النماذج وتطورها، وللعجب إنها حملة مستمرة رغم كل المتغيرات الدولية والتقنية والاعلامية -كانت البداية بالمسانجر وفي غرف البالتوك ثم انتقلت للايمايل فالفايسبوك فباقي وسائل التواصل الاجتماعي حتى موقع الجمال انستغرام تتحرك هنالك بخطى ثابتة داخل اسواره-، إنها جملة تجبر المتلقي على الايمان بصدقية الرسالة وتعطيل كل ملاكات التفكير والانتقاد ... بل بإلزامية نشرها، والا فمصيره محتوم تخطه باقي كلمات الرسالة.

والواقع، أن هذه الرسالة لا تكفي لتُشكل لك سيرة هذا المحلل الهاتفي العجيب، لقد كانت القنوات التلفزيونية الاخبارية بتقاريرها وبرامجها تحصد الرؤوس لتشكل وعيا جماعيا وفق تمذهباتها ، وكان بعض ضيوفها يحسنون تزين كلامتهم كما أناقتهم وتعلو محياهم ابتسامات ... برهانا على اللقب الذي يُسطّر تحت أسماهم بكلمة "محلل" وليت أغلبهم كان كذلك، وتلحق بها كلمة (استراتيجي، أمني، اداري، اقتصادي ...). وكانت تللك الالقاب تُغري هؤلاء القوم وغيرهم، فاكتسحوا كل المحطات كما الاذاعات، وها هو أخر جيل منهم يلتحق بالمقاهي فاصبحوا سادتها اليوم. ولتكتمل الصورة، شكّل امتلاك كل فرد للهاتف وقدرته على المشاركة في كل وسائل التواصل الاجتماعي بسهولة أخر فصول نشأته السريعة؛ لتنطلق هذه المخلوقات العجيبة مُكسّرة ما تبقى من عقلانية وايمان بالتغيير ووعي بإشكالات المستقبل الحقيقية وبالتحليل الدقيق.

لاشك اننا قد نتعاطف مع هذا المحلل، مع مراعاة طرق التفكير المختلفة، وأغلب الظن أنه يكون إنسانا طيبا وودودا وغالبا ثرثارا، وقد يُحاجج البعض بأن في الظاهرة ما يؤشر على حيوية المجتمع ووعي جماعي بالتحديات، لو كانت وفق أسس معقولة، غير أنها، للأسف، لا تغذو استمرارية لوعي مزيف شكلته الأنظمة السلطوية واحتضنته المجتمعات ... لتشكل الظاهرة اطارا لفوضوية الخطاب الممارس ببلداننا، ولغياب دور محوري للمثقف، وبرهانا على طُغيان خطابات المحللين بدون ضوابط اعلامية، وأخيرا، مؤشرا على تنامي سلطوية الصوت والصورة بمجتمعات مؤشرات الامية. ووفق هذه المعطيات، يجوز معه وصفهم كضحايا لهواتفهم الذكية واحلامهم التحليلية ومرض الاستسهال الذي انتعش في مجتمعاتنا بعنوان "في عشر ايام" وتلك حكاية أخرى.

كما سبق، أنتجت ثورة الاتصالات صحافة المواطن؛ اذ يمكن للمواطن أن يكون شاهدا على أحداث وتحولات مصيرية ينقلها بهاتفه لرحاب العالمية محررا وموزعا ومحللا، لكنني أجزم أن محلل الهاتف يعي هذا الواقع، كما أنه لا يشكل بالضرورة امتدادا لهذا المسار، ولكن هل يمثل هذا المحلل ذلك الصنف؟ وقبل ذلك، هل وصلنا لدرجة المواطن؟ لأن ما يروج بعالمنا العربي فصل من حكاية أخرى. 


  • 1

   نشر في 28 يونيو 2018 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا