مشاعـــــر رجـــــل خــــارج مــــن العبـــــوديــــّـــــــة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

مشاعـــــر رجـــــل خــــارج مــــن العبـــــوديــــّـــــــة

  نشر في 15 أبريل 2024 .








منجي الحدادي-كاتب- تونس

مشاعـــــر رجـــــل خــــارج مــــن العبـــــوديــــّـــــــة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

البارحة فقط انتقلت إلى منزلي الجديد..

و هذا في حد ذاته حدث روحيّ ووجوديّ، يقترب كثيرا من حرب خاضها شعب ما من أجل التحرّر و الانعتاق..

و هذا ما يجعلني بلا شك في حالة من السّعادة لا تُوصف..

لقد تخلّصت أخيرًا من ألائك الملاعين الذين كنت أسكن بيوتهم على وجه الكراء، لقد عشتُ فضاعات وأهوالاً لا يمكن وصفها مع ألائك الحمقى الذين يمرّرون لي احساس مقيت على مدار السّنوات التي عشتها تحت سلطتهم، بأنّ وجودي في هذا الدّنيا مقترن بموافقتهم، كانوا يحْقنونني بهذا الشّعور الفظيع على نحو دائم.

الإحساس أنّك لا تملك بين تلك الجدران سوى ذلك الأثاث - و الذي يمكن أنّ يُصبح في الشّارع في أيّ وقت حين تكون فيه تلك البدينة المُقرفة صاحبة البيت في مزاج سيّء -هو احساس يقترب من العبوديّة بل يتقاطع معها.

كانت حياتي الطبيعية مرتبطة بموافقة الآخرين، و هذا أمر كلّما تذكرته و أنا أسكون بيوت الآخرين، انتابني شعر بالمرارة و الحقد على كلّ أولائك الملاعين الجهلة.

عندما تسكن في بيت على وجه الكراء تأكد أنّه لا خصوصيّة لك، سيأتيك صاحب البيت و يعلمك أنّه يتوجب عليك أن تطفئ الأضواء في ساعة بعينها، دون أنّ يهتم لأيّ تبرير منطقي تقوله إليه، سيفرض عليك أنّ تعتني بحديقته، و سيراقب ذلك بدقّة، و سيعلمك من الغد أنّه سمع صوت الأبواب تطبق بعنف، لذلك سيدخل عليك ليتأكد من سلامة ممتلكاته، سيفرض عليك أنّ تدفع ثمن الماء و ثمن الكهرباء دون أنّ تطلع على الفاتورة، سيزيدك في ثمن الكراء دون وجه حق، سيدخل (بيتك) من حين إلى آخر دون أن يحترم وجودك، و حتّى خصوصيّتك ليقلب جدران بيته، ستضطرّ لقبول هذا حين تلتفت إلى خسارتك لو واجهته بموْقفك، ستخسر كل الأمور التي اعتدت عليها، و بعدها سيضطرّ أطفالك لقطع مسافة طويلة للوصول إلى مدرستهم حين تغير مسكنك، و لا تضمن أنّك ستجد أناسًا آخرين يتمتّعون بأخلاق عالية، و من يسوغ لك منزلاً يعرف هذه الحقيقة، لذلك ينتهز هذا الواقع ليزيد من عبوديّتك و يتلذّذ بكل الاساءات المُوشينة التي يخصك بها في كل حين ، دون أن يراعي مشاعرك كانسان.

الحقيقة أنّ من يسوغون منازلهم و الذين عرفتهم قد قالوا لي أغلبهم الكلمة التي تقترن بالإهانة التي عشت عليها " اخْرجْ من داري"، حتّى و إن استندوا الى سبب تافه أو بدوّن سبب.

اليوم أقول لهم بكلّ فخر، لقد صار لي منزلا مثلكم، و لهذا أريد أنّ أعبر عن كرهي الشديد لكم، بل أنّني أمقتُ كلّ شخص يملك بيتًا معدًا للكراء.

اليوم يمكن لأطفالي أن يفعلوا ما يحلوا لهم، دون أنّ يأتي لهم ذلك الأحمق و يأمرهم بالتوقف عن الكلام، و أنا أنظر في عيونهم المهزومة بغبن و ذل، اليوم سأغرس أحواضًا من القرنفل و النعناع و ربّما أيضا من الحبق ذو الرّائحة المنعشة في حديقتي الصّغيرة، و أترك اطفالي يعتنون بها، و إذا لم تعجبهم يمكنهم أنّ يقتلعوها متى شاؤوا فهي ملك لهم، و يمكنني أيضا أنّ أسقط ذلك الجدار الذي لا يعجبني، و أُعيد بناءه، فهذا ترفٌ أريد أنّ أفعله و يُمكنني أيضا أنّ أُغير طلاء منزلي بلون مختلفًا حتّى أجلب أنظار المتلصصين إلى حياتي الجديدة، و هذا يزيد من حالة الزهو التي أشعر بها الآن، يمكن أنّ أتخاصم مع زوجتي و أرفع صوتي بكل حريّة حتّى إذا جاءني جاري و طلب مني أنّ أتوقف عن الضجيج، باستطاعتي أنّ أقول له بكلّ صفاقة و أنا أنظر في عينيه " إنّني في داري"،حتما لن يجد الرّد، و سيضطرّ لتحمُّلي.

سأربي في منزلي قططًا و دجاجًا و أرانب، و ربما أيضا عدد من الكلاب و هذه مجرد أفكار لم تنضج بعد، و يمكن أغير رأي بناءا على مزاجي المتقلب، فأنا صرت صاحب مزاج متبدل لكثرة رغباتي، و لغزارة أفكري المجنونة التي غذت حالة هيجان شخصيتي التي تحرّرت من القمع و العبوديّة.

في الحقيقة أفكّر أنّ أُقيم وليمة لجيراني و أحبابي و أصدقائي حتّى يعلموا أنّني امتلكت منزلاً و صرت سيّد نفسي.

صرت أفتح بابًا و أغلق آخر بدون سبب ، اقفز فوق منزلي و أنظر إلى بيوت الآخرين في لحظة تحدي و تفاخر، و قد صار لي مكان عالٍ أركبه، و أنظر من فوق إلى الرؤوس الصغيرة التي تمرّ في الشارع الفسيح أمام بيتي بازدراء ، ثّم أقف أمام باب منزلي، و أتابع بعيني ألائك الاطفال الأشقياء حتّى إذا لمس أحدهم جدار منزلي نهرته بحزم و جريت وراءه، و ربما أطلق عليه النار، أقف بعيدًا من منزلي و اتأمله في حبور و أنا مزهوٌ كطاووس مغرور.

أجلس في المقهى و لا أتحدث إلاّ عن هذا الحدث العظيم الذي حصل في حياتي حتّى إذا ما تعرّفت إلى أحدهم و سألني عن عنواني أطنب في الوصف و أكرّر باستمرار كلمة داري""

هذه اللّيلة يُمكنني أن أنهض في ساعة متأخرة، و أفتح الأضواء كلها، و أقوم بتشغيل التلفاز و أشاهد فيلم امريكي، و أنا أدخن بشراهة، و يمكنني أنْ أضحك بصوت عال على مشهد ربما لو شاهدته من قبل لن يضحكني أبدًا.

أنا الآن أضع مفتاح منزلي في جيبي، و كأنني أحمل انتصارات الأرض كلّها في يدي، أخرجه من جيبي و أنظر إليه و ألعن الحمقى، و أنا أضحك كالمجنون.

أتلقى التهاني أينما حللت، و هذا يدفع شعوري إلى أقصاه و هو أنّني امتلكت حريتي و مصيري بيدي.

أطفالي فهموا ذلك جيّدًا، فصاروا أكثر شقاوة عن قبل، فأصبحوا يضربون على الأبواب بعنف، و هم يهرولون من غرّفة إلى أخرى، حتّى إذا ما خرجوا إلى الحديقة صنعوا أكداسًا من التراب فوق الرخام الأبيض الناصع، و أخذوا يضربونها بأقدامهم فتصبح الحديقة كأنها ساحة حرب، في الحقيقة أنا لا انهرهم أبدًا، بل أنظر إليهم في سرور بالغ، حين يلاحظون صمتي، و أنا أبتسم إليهم تزيد شقاوتهم، و تزيد سعادتي.

ثمة شيء أخر بدأت أفعله، و هو مطاردة تلك الحشرات البغيضة، و هي كائنات متطفلة تدخل بيتك بدون موجب حق، بل و تعتدي عليك أيضا، فأنا لا أتسامح مع هذا أبدا، فاشتريت مبيدات و أفخاخا و كل أنواع الأسلحة من أجل الدفاع عن مملكتي، فأنا لا أفهم كيف تعيش معي كائنات أخرى بغير وجه حق و بدون موافقتي. ينتبهون أطفالي إلى هذا الأمر فتراهم كل يوم يسحقون بأقدامهم الصراصير الذين يحملون على ظهرهم أصفاد حمراء مقززة، و كذلك النمل ذو اللون الأسود المخيف و غيره من الحشرات، هذه الحشرات تراهم يتجولون في أرضية الحديقة بوقاحة مستفزة كأنها ملك خاص بهم، و بل يتجرؤون في كثيرا من الأحيان و يدخلون بصفاقة داخل بيتي، و هذا ما لا أسمح به أبدا، لذلك عملتُ على إبادة كلّ كائن غريب يدخل بيتي بدون وجه حق.

و أخيرًا و هذا أهم شيء، فهذا الشهر سينتهي دون أنّ تأتي تلك العفنة لتحمل كدس من الأوراق النقدية من يدي، و هي تعدها أمامي و تضغط على الأوراق و عيناها ترمشان ببلاهة مستفزة، لتعلمني بداية من الشهر القادم بأنّها سترفع في ثمن الإيجار، و هو في الحقيقة ثمن بقائي، بينما أوْمئ أنا برأسي في ذل و مرارة كبيرة، لن يحصل هذا أبدًا بعد اليوم، من الشهر القادم سأشتري بثمن الإيجار الذي كنت أدفعه أشياء لم أحددها بعد، ربما اشياء تافهة لا يهم..! فأنا اليوم قد خرجت من منطقة العبودية دون رجعة. 






  • منجي الحدادي
    كاتب تونسي صدر له مجموعة قصصية ( رصاصة واحدة تكفي) و كذلك رواية( عشت مع الذئاب) و رواية (المخطوط)
   نشر في 15 أبريل 2024 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا