اكتشافات ما بعد الخامسة والثلاثين

لا أصدق أني على هذه الأرض منذ خمس وثلاثين عاما

تضيق علي أحيانا وتتسع كثيرا

غير أننا -أنا والأرض- على كل تقلبات علاقتنا نزداد تآلفاً وفهما لبعضنا البعض كلما مر يوم.

كوكب صبور وكفور .. احتملني وأنا طفلة شقية ثم مراهقة حساسة ثم عشرينية متمردة فثلاثينية بهية تدعي بعض الفهم للأمور .

الطفلة كانت تلملم عرائسها وتمثل معهم دور الأم المقهورة.. كنت أحتضنهم وأتخيل أني في أتوبيس عام وأبدأ الحوارات .. مرة أبكي وأشكي لعروستي من أبيها الذي تأخر علينا واضطرني لركوب الأتوبيس وحدي، ومرة أرفع صوتي وآمرها بحسم أن تضم ساقيها وهي جالسة وإلا أخبرت والدها.

المراهقة التي يتعرق وجهها إذا ظهر نجمها المفضل في شاشة التليفزيون وتحاول أن تختلس النظر على عيني امها لتتأكد انها لم تر الإعجاب في عينيها.

أما العشرينية التي بدأت تلقي بنفسها في نار الحياة ولا تبالي بالنتائج، هي التي كرهت خجل المراهقة وقهر الطفولة .. أحبت وغنت وكتبت .. وانضمت لفريق التمثيل بالكلية واكتشفت أن الحياة مسرح كبير بالفعل.. ذاكرت واجتهدت وتطوعت في خدمة المجتمع المدني والتوعية وخلافه.. صارت امرأة.

أما الثلاثينية فأفضلنا وأجملنا شكلا وروحا.. خذلتها الحياة كثيرا فكانت تنحت كل مرة خطا جديدا في خطوط جمالها .. لكنها لم تعرف .. وإنما عرفت واحدة تلتها في الخامسة والثلاثين .. أنا التي تكتب الآن وتدعي انها عرفت وأن هناك الكثير مازالت لا تعرفه.

في الخامسة والثلاثين عرفت أن بإمكانك في أي لحظة أن تهدم ماضيك وتردم فوقه وتبدأ على أرض جديدة.. بإمكانك صناعة كوكبك الجديد كل يوم.

عرفت معنى مقولة الإمام علي"وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر" .. أنت كل شيء يحدث وكل شيء تشعر به هو أنت .. كل زمن ومكان أنت .. كل من تقابلهم هو أنت ..

عرفت أن الحب لا يُهدى إلا لقلب سليم .. ودون ذلك ليس بحب ..

لا يستقيم حب دون رضاك عن محبوبك .. عقله وروحه وأفكاره ينبغي أن يكونوا محترمين من وجهتك.. لا ينفع حب تكره فيه أن حبيبك -على سبيل المثال- كذاب .. فأنت لا تستحسن الكذب وتكره الكذابين .. فلا ينبغي أن يكون أقرب الناس إليك كذاب! إذا حدث ذلك فاعرف أن هذا ليس حب .. وإنما نوع من تبادل المنفعة المقنَع..

من أعظم ما عرفت بعد انقضاء خمس وثلاثين أنه لكي تعرف نفسك لابد من عزلات كثيرة .. تفكر في بعضها وتطرد من داخلك الأفكار في البعض الآخر .. تعرف نفسك وتعرف أنت ابن لأي وجع .. فجميعنا أبناء اوجاعنا.

النفس البشرية تمرض وتتعافى وتتعقد وتنبسط وتفنى وتستحدث من عدم ..

اللين .. ثم اللين .. كلما نضجت كلما ستعرف أن اللين لا يدخل في أمر إلا زانه ويسره.. صرت الآن أشفق على هؤلاء الذين يعتبرون الحياة حربا ، وأقع أحيانا في ذلك الفخ بالطبع كوني آدمية جهولة .. ولكني ما إن أفيق من غيبوبة الحماقة تلك أعود لاشفق على نفسي كما أشفق على غيري من آخذي الأمور بليّ الأذرع.

يأتي اكتشاف مهم كذلك وهو أنك تحتاج لرفيق من روحك .. ليست (شطارة) أن تقول "سينجل وأفتخر" ، ولكن كل الفخر أن تصل بقلبك لمنطقة السلامة والاطمئنان والنجاة فتكون مستحقا للجمال .. وقتها سيوفقك الله لحبيب تكمل معه رحلتك بانسيابية .. حبيب يكون لك السلام .. لا يذيقك مُر الغيرة وحقد الهجر والعند وما شابه.

لا ينبغي أن تسمح بذلك بعد الخامسة والثلاثين. . انجُ بقلبك.

سلام عليكم طِبتُم رفقاء المرحلة.