المغالطات الرياضية - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

المغالطات الرياضية

  نشر في 04 يناير 2016 .

أثناء دراستي بكلية العلوم, كان لي زميل يكبرني حيث يدرس في صف البكالوريوس بقسم الرياضيات بنفس الكلية, ولشغفي بالرياضيات فقد كنت حريصا على الاستفادة مما لديه في مجالها, وقد جمعتني به من قبل سجالات كثيرة. عاد الزميل مرةً من محاضرة ليلية وفاجأني بأن محاضرة الليلة تناولت فكرة تطور الرياضيات؛ حتى أنه أصبح من الممكن عن طريق بعض معادلاتها إثبات أن الواحد يساوي اثنين!

لم أتقبل هذه الفرضية, ورحت أجادله بأن هذا درب من الخيال, فالرياضيات علم منطقي لا يخطئ؛ استل الرجل دفترا وقلما وراح يخط لي بعضا من المعادلات التي انتهت بنتيجة أثبتت أن الواحد يساوي اثنين, ظللت لبرهة أراجع المعادلة, فالخطوات الرياضية سليمة, غير أن النتيجة التي تخلص لها المعادلة لا يقبلها عقلي, وألححت على الرجل أن يوضح لي الخلل الذي أوصل لهذه النتيجة, وبعد مماطلة من صديقي, أعلمني أن المحاضرة كانت بعنوان المغالطات الرياضية, وأن الخلل حدث في إحدى الخطوات الفرضية التي بنيت عليها المعادلة أصلا, فمن فلسفة الرياضيات أن ما بني على فروض خاطئة يوصل لنتائج خاطئة.

كلما طالعت ممارسات إعلامنا؛ تذكر زميلي الذي باعدت بيني وبينه الأيام؛ وحضرتني فكرة المغالطات الرياضية, ورحت ألتمس المعاذير لبعض ممن يوهمهم الإعلام بمغالطات تروج على أنها حقائق.

الشعب المصري ظل عقودا من الزمان مبتعدا عن السياسة ودروبها, ونجحت الأنظمة القمعية في ترسيخ قناعة لدى الناس أن مجرد الحديث في الشأن السياسي هو جرم لا يجب الاقتراب منه, ولم يكن الإعلام قبل (التوك شو) الفضائي إلا وسيلة للترويج لرأي واحد هو رأي النظام, الذي كان عامة الناس يتلقونه بالقبول والتسليم, فيمارس الإعلام مهمته في صناعة الرأي العام الموجه بفعالية.

مع هبوب الربيع العربي وتزاحم الفضائيات مدفوعة الأجر, وانشغالها بالشأن المصري, لم يكن غريبا على الذوق العام المصري أن تُسوَّق له بعض الشخصيات التي تحدث له حالة من الإبهار, ينتج عنها استقبال وقبول لما يروج عبر أثيره, حتى وإن خالف العقل والمنطق.

تم تقسيم الشعب المصري لمجموعة من الشرائح, كلٌ حسب المستوى الثقافي والعلمي, وظهرت شرائح من نجوم التوك شو متفاوتة الثقافة والأداء, بعضهم يمارس الترويج للمغالطات متلبسا أردية الثقافة والفهم ومستعملا مصطلحاتها في إثبات المغالطات, وآخرون يحدثون الناس بأساليب تناسب أبسط شرائح المجتمع؛ فسمعنا عن الرئيس الذي لابد أن يعرف كيفية "تزغيط البط " أو تسمين العجول, وربطت مصطلحات "الغيط" والبيئة بالممارسة السياسية, فخرج المشاهد الذي كان يصنع برزخا عاليا لمن يمارس الحديث في الشأن السياسي ظانا أنه قد بسطت له المعلومة وتفهمها؛ فلا بأس أن يمارس النقاش والمجادلة السياسية, ويتعاطى مع الأحداث؛ ممتطيا صهوة ذاك البرزخ الذي كان يراه عاليا, وهو لا يملك من معطيات الواقع غير ما سوق له من أكاذيب ومغالطات.

وقد لازمَ هذه الحالة ظهور ممارسة للأساليب التدريسية القديمة في الممارسة الإعلامية وعلى الهواء مباشرة؛ ما بين مذيع يسب مستمعيه ويبوبخهم, وآخر يسب نفسه لعدم استيعاب جمهوره لما سوق وروج له.

واستخدمت أبواق هذا الإعلام للترويج لمغالطات وأكاذيب وترديدها على مسامع المتلقي فأصبحت كحقائق يجادل بها؛ فكانت سببا في خروج الناس على أول رئيس انتخب بإرادة شعبية, المفارقة أن نفس الأبواق مارست فيما بعد نظرية المغالطات في تبرير هذه الأكاذيب عندما أصبحت واقعا حقيقيا على الأرض.

ولم تسلم قضايا الأمن القومي ولا أعماقنا الإستراتيجية من هذا العبث, كما لم تسلم معاني السيادة ومفاهيم الدولة نفسها من هذا الزيف, أو حتى علاقاتنا الدولية وتحالفاتنا الإستراتيجية في واقع تتشكل فيه قوى الشرق الأوسط ويعاد رسم خرائطه, فالإعلام الذي طالب مرسي بضرب أثيوبيا واتهمه بالتخاذل في إيقاف سد النهضة الذي هو خطر داهم على مستقبل مصر وشعبها؛ هو نفسه الذي ادعى فيما بعد أن خيرًا سيعم مصر من وراء هذا السد, حتى قال أحدهم إن السيسي لن يعتدي على أثيوبيا لأنه ليس بلطجيا كأردوغان, وما بين سقوط الطائرة الروسية بسيناء وإسقاط المقاتلة الروسية على الحدود التركية تباين توصيف الإعلام المصري لبوتن ما بين بلطجي متهور أو بطل لا يهاب مطالبا إياه بأن يغضب, وراح يصف حماس والمقاومة الفلسطينية بالإرهاب, وقتلى اليهود بالشهداء, وروج لعمالة مرسي لقطر وتركيا وأمريكا, وأعلن أن السيسي أسر قائد الأسطول السادس الأمريكي, ومارس الدجل وروج له بأن حمّل الممارسات الفاشلة في إدارة البلاد لقوى ميتافيزيقية عن طريق مؤامرة يدبرها مجلس إدارة العالم.

لقد نجح رواد الثورات المضادة في استخدام الإعلام في تقسيم الشعب المصري مستخدمين نظرية المغالطات الرياضية وترويج الأكاذيب, فخلقوا حالة من تزييف الوعي العام, وحفزوا عوام الناس مستغلين صورة نمطية في العقل الجمعي عن ممارسي الجدالات السياسية وبرزخهم العالي؛ فمنّى الكثيرُ من عوام الناس نفسه فكانوا أبواقا تردد أكاذيبهم وتسوق لمغالطاتهم, وبدا التقصير واضحا من أهل الربيع العربي في استخدام الإعلام في صناعة الوعي وكشف الزيغ وتفنيد المغالطات .


  • 2

  • khattab71
    صحفي مصري ومدرب معتمد وناشط في مجال حقوق الإنسان
   نشر في 04 يناير 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا