لا أدري إن كنت موفقا في تناول هذا الموضوع في هذا الظرف العصيب التي تمر به بلادنا أم لا.لكن ما دعاني لإثارته ليس فقط ما تصدره المنظمات الدولية من تقارير حول هذه الظاهرة ،وإنما لكون الفساد أصبح جزء من ثقافة المجتمع اليمني، ولكون الفساد أحد العوامل الرئيسية في إفقار المجتمع ،وتفشي اﻷمية ،وضعف وهشاشة البناء المؤسسي للدولة.
وعندما اتكلم عن هذا الموضوع فأن ذلك يثير في نفسي خليط من مشاعر اﻵلم واﻷسى والحزن والغضب في آن واحد،ومرد ذلك إلى اﻷتي:
1- لم اسمع عن الفساد من بعيد،بل عشت معه من خلال عملي في الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة،وكذلك ﻷني قمت بدراسة هذا الموضوع دراسة دقيقة،وعرفت ببواطنه واعماقه ،وشخوصه...الخ في اليمن.
2 - ان الفساد يعد العامل الاساسي لتخلف اليمن،وجعلها في قائمة الدول الفاشلة والهشة والفقيرة.
3- الذي يتعامل مع هذا الموضوع في اليمن يفترض أن يكون حاضرا امامه جملة من اﻷمور منها:
*- يمكن اختصار تاريخ اﻹنسان اليمني في الكم الهائل من المعاناة والعوز والبؤس والشقاء والحرمان....وإن مغادرة تلك الظروف واﻷوضاع يشكل فرض عين وواجب اخلاقي يقع عبء القيام به على من يتولون تسيير إدارة شؤون هذا البلد.
*- إن من تولوا إدارة شؤون البلاد سواء في فترة حكم الرئيس السابق (صالح) أو بعد رحيله عن السلطة،لم يكونوا على قدر من المسؤولية و الكفاءة،باعتبارهم خليط من ابناء العوائل المشيخية.
*- هيمنة القبيلة على العمل السياسي والإداري بالدولة،مما أدى إلى شل فاعلية المؤسسات الحكومية.
*-غياب سيادة القانون و التزاوج بين السلطة والتجارة،اﻷمر الذي جعل من الجهاز الحكومي اليمني أرض خصبة لاستشراء الفساد،وتحوله إلى ظاهرة مألوفة،حتى أصبح المفسدون قدوه وشطار ،واﻷمناء والاتقياء والنزهاء اغبياء بل روعاع يبغضهم المجتمع ويتندر بغبائهم نظرا لعدم تمكنهم من جمع الثروة.
وأمام هذه اﻷمور التي يجب أخذها في الحسبان عند تناول هذا الموضوع،فأن ما يعرف بالفساد في الادبيات الفقهية ينقسم إلى فساد كبير وفساد صغير،ومرد هذا التقسيم إلى أن الفساد الكبير فساد مرتبط بموظفي السلطة العليا،والفساد الصغير مرتبط بموطفي السلطة الوسطى. والفرق بينهما هو الدافع من اتيانهما، حيث والدافع من اتيان الفساد الصغير هي الحاجة والعوز بهدف تحسين المعيشة ومواجهة ظروف الحياة، بينما الدافع إلى الفساد الكبير هي الرغبة في تكوين الثروة ،دون تحسين المعيشة،حيث وهي في أحسن حال لموظفي السلطة العليا.
وبالرجوع إلى مستوى تفشي هذه الظاهرة في اليمن.نلاحظ أن الفساد الكبير بلغ أعلى مستوياته،والشواهد على ذلك كثيرة جدا منها:
- اﻹثراء غير المشروع:حيث وقد برزت مؤخرا طبقة ثرية من المسؤولين سواء في القطاع المدني أو العسكري.
- الجمع بين السلطة والتجارة: من النادر في اليمن أن تجد مسؤولا لايمارس العمل التجاري سواء بصفته الشخصية أو عن طريق ابناءه او شركاه. حيث وقد أصبح أغلب من تولوا السلطة تجار..بل تجار كبار يحتكرون العديد من القطاعات والنشاطات التجارية..وعادة ما يستغلون مواقعهم لتمرير صفقاتهم المشبوهة.
هذا وقد اشارت العديد من الدراسات والبحوث الاقتصادية أن الاقتصاد اليمني رهين قبضة من النخب على رأس تلك النخب النخب القبلية وشركائهم في السلطة. وفي نفس الاتجاه فقد اتهمت اليمن ضمن اربعة عشر دولة باختفاء عايدات النفط -قبل توقف شركات الانتاج عن انتاج النفط بسبب الحرب- في جيوب المسؤولين.
كما أن الفساد الصغير قد بلغ أعلى مستوياته، حيث لايقل عن الفساد الكبير ،وهذا ماكشفت عنه العديد من الدراسات،ومنها الدراسة التي قمت باعدادها في مرحلة الدكتوراه، حيث وقد كشفت عن مبالغ فلكية جراء تعاطي الرشوة،وهدر الأموال العمومية عند الصرف من حسابات الموازنة ،وتمرير العديد من عقود المشتريات ومناقصات اﻷعمال.
وفي هذا اﻹطار فأن الفساد الصغير ليس مقصورا على موظفي السلطة الوسطى؛ بل أن بغض موظفي السلطة العليا غالبا ما يمارسونه وخصوصا عند تمرير عقود الانشاءات ومنح تراخص التنقيب والاستثمار.
الأمر الذي جعل من اﻹدارة الحكومية في اليمن إدارة منتجه للفساد والمفسدين،حتى غداء لكل شئ ثمن في بلد يفتخر أهله ليلا ونهارا بأنهم أهل الحكمة والإيمان والتقوى - لا جدال في ذلك بأن اليمنيون أهل حكمة وإيمان وتقوى..كون هذه الصفات خصها رسولنا اﻷعضم بأهل هذا البلد..لكن فساد الحكم افسد حياتهم ونغص معيشتهم- مما غداء لكل شئ ثمن وهنا تمكن المشكلة الكبرى.
إضافة إلى ماسبق فهناك العديد من ملفات الفساد الاسود التي يعجز مقال واحد عن ذكرها والوقوف على وقائها و حيثياتها منها على سبيل المثال:
ملف اﻷراضي والازدواج الوظيفي،و ملفات وزارة الدفاع،حيث وقد تصدرت وزارة الدفاع اليمنية خلال2013 قائمة الدول اﻷكثر فسادا في العالم حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية الخاص بقطاع الدفاع . وهناك الفساد المرتبط بالموازنة العامة ،وملفات النفط،وغيرها من الملفات الشائكة .....والقضايا ذات الاوزان الثقيلة،التي يصتدم الباحث في هذا المجال بحجم الأموال المهدرة في ظل تواطئ حكومي وصمت مجتمعي.
مما سبق يمكن القول بأنه لم يعد أي مجال من المجالات التنفيذية أو التشريعية أو القضائية أو الأمنية والدفاعية ...الخ، إلا وهو مخترق من قبل الفساد والمفسدين،وكل هذا الاستشراء المخيف والنهب المتوحش للأموال العامة ناتج عن ما يعرف بتبادل المنافع بين مافيا الفساد واﻹفساد،وشبكة التحالفات القائمة بين نخب النهب المتوحش. وشيوع ثقافة الفساد في اوساط المجتمع،وغياب العمل المؤسسي،وانعدام الشفافية والمسألة،وهيمنة السياسية على اﻹدارة ،وسياسة الاسترضاء والمحاصصة الحزبية للحقائب الوزارية ..وغيرها من المسببات.وقد نتج عن هذه الظاهرة العديد من النتائج السلبية على الدولة والمجتمع.
وأمام كل ما احدثه المفسدون من جرائم بحق الوطن والمواطن،ومع خطورة هذا الداء العضال فقد وقفت اﻷجهزة المكلفة بحماية اﻷموال العامة ومكافحة الفساد عاجزة عن صد النهب المتوحش لموارد الدولة،بل يمكن اعتبارها مساهمة في ذلك بحكم سكوتها وتغاظيها عن المفسدون.
وخلاصة القول فاليمن اليوم مريضة بالفساد مريضة بالمحاباة والرشوة وبالغش والتزوير والعبث بالمال العام..الخ ، حيث وقد أصبح الفساد في ادارتنا الحكومية فسادا مؤسسيا ونسقيا، بل اصبحت اﻹدارة الحكومية بيئة حاضنة ومنتجة للفساد والمفسدين،حتى أضحى الفساد هو اﻷصل والنزاهة هي الاستثناء. ومواجهة هذا الداء الخبيث يتطلب إرادة سياسية جادة،ووعي ومساهمة مجتمعية فعالة،وفي الوقت الراهن نأمل من اﻷخوة في حركة ( انصار الله) بحكم انهم يمثلون شرعية اﻷمر الواقع إعادة النظر في هذا الموضوع الذي لا تقل خطورته عن خطورة جرائم العدوان السعودي على وطنا العزيز.