آباءٌ وأهواء - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

آباءٌ وأهواء

كل ما سبق

  نشر في 09 فبراير 2019 .

الأجواء فجرية، شئٌ من الهدوء يصارع قرعات أحذية الكاوتشوك والبلاستيك التي يرتديها أولئك الأطباء، طقسٌ سئٌ يشي ببرودة أنتاركاتيكا أو شئٌ من هذا القبيل؛ الطرقات فارغة مضاءة بمصابيح نيون بيضاء تدفع الزومبي للتوتر بينما العالم بأسره في نومٍ سُباتٍ .. ثم غرفة العمليات مكدسة بأطباء في بيجاماتٍ خضراء باهتة كأنهم ربطات بقدونس توشك على الذبول؛ يطوفون حول أمك تباعاً وهم ينقبون عنك كأنك كنزٌ من ذهب.

في الخارج يقف وحيداً يرتجف؛ إنه أبوك، من البرودة يرتجف .. من القلق يرتجف .. من خوفه على حياتك وحياة أمك يرتجف؛ من تكاليف المستشفى يرتجف .. من مصروفات كافولاتك الصحية يرتجف .. ليتك تموت؛ من أمك الملغمة بروائح الحلبة والدواء يرتجف .. ليتها تموت، من خوفه على حياتك وحياتها يرتجف، في نهاية الأمرترى في أبيك أنه بناءً شامخاً حنوناً من الهلاك أن يتهاوى.

ثم أنت تأتي للعالم في حفلٍ من الزغاريط وكروت المعايدة وملح عاشوراء، ها قد بدأت نوبتجيتك الدنيوية لتوّها.

أنت طفلٌ تداعب الملكوت، كل الأبطال الخارقين أبوك؛ مَن قتل الصرصور؟ بابا .. مَن صاد الوطاويط ليلاً بينما أنت نائم؟ بابا .. مَن قتل الأسود وفتك الضباع وإلتهم أفعى الأناكوندا؟ بابا .. مَن شارك في غزوة بدر؟ بابا .. مَن مَن مَن؟ إنه بابا.

تخطو تدريجياً تجاه النضج؛ ها قد صرت كتلة من الأخلاق البذيئة والسوالف الكثّة؛ إنها فترة المراهقة .. هنا يأتي أبوك بدوره في تهذيبك وقد تشكّل أمامه وغداً مراهقاً أصفر الملامح والطباع تتراقص هرمونات الشيطان على وجهه مكونة حبوب الشباب وشارباً شنيعاً من الجحيم.

يرى الآباء ما لا يراه أبناؤهم، ربّما يخيل إلى بعض الأبناء أنهم ضحايا نزاعٍ بين آبائهم وأهوائهم ولا يدركون مقصدهم إلا بعد مُضيّ الأوان، لذا عنونت مقالي بـ (آباءٍ وأهواءٍ) وأظنه العنوان الأنسب لحديثنا ذلك.

ثمّة مشكلة تعوق الأبناء في آونتهم تلك وهي أنهم لا يملكون أدلّة كافية تبين سلامة أهوائهم، وعليه .. تقودهم نظريات المؤامرة إلى طريقين بلا ثالث؛ إما أن تستسلم لهوى أبيك وإما العقوق والتمرد .. وكلاهما لا يناسبك، فكّر كيف تقنعه؟

الأمر برمّته إجبارياً، تفشل وتتخذ الطريق الأول باعتباره أقل خسائر المعركة، تخضع لهواه لأنه يعرف ما يدور هنا وما يدور هناك وأيّهما أصلح تجاهك، تثرثر كثيراً لكنه يغفر ثرثتك التى لا تعني للعالم شيئاً- ولا له- لكنه يتظاهر بأنها كل شئ، الغريب حقاً أنك لو تمكنت من العودة بالزمن بعد ذلك لاتخذت هوى أبيك ثانية دون تفكير أو مجادلة.

لذا فالأمر بديهيّ أن هيمنتك قد فُرضت فِطرياً على أهواء ابنك؛ على ضوء مصباح مكتبك الخافت تجالسه؛ تنصحه أن لا يُرافق فلاناً لأنه صديق سوء، حسنٌ سأفعل .. ولا يفعل؛ تُرشده بتأديب أن لا يرافق فلاناً لأنه صديق سوء، حسنٌ سأفعل .. ولا يفعل؛ الزجر فعّالٌ في مثل تلك الحالات، تُعنّفه أن لا يرافق فلاناً لأنه صديق سوء، حسنٌ سأفعل .. ويفعل- أقصد بالتعنيف تعنيفاً شفهياً وارداً وجوده بين كل أبٍ وابنه-؛ في تلك المرة يفعل مرغماً؛ ولا يلبث كثيراً ليدرك أنك على صوابٍ، هكذا ينتصر الآباء في العموم على أهواء بنيهم.

ثم ها هو ينضج كثيراً بعقله تزامناً مع عمره وسرعان ما تتخذه صديقك المقرب، شابٌ مرحٌ يعالج الأمور بعقلانية أكثر من أبيه؛ تحبه من تلقاء نفسك لأنه ابنك؛ وإن لم يكن كذلك فإنه يرغمك على حُبّه لتتمنى أن تُخلّدا سوياً في الدنيا خشية الفراق، بالطبع كنزٌ مثل هذا لابد من السطو عليه؛ تلجأ لأراءه في كثيرٍ وكثير؛ يعلّمك من ثقافته فتتقبل مُرحبّاً بذلك، هكذا تخضع لأهواء ابنك في سعادةٍ تُشعرك بلذة الإنتصار على شيطانٍ كاد أن يُضلّ نُطفتك.

بطبيعة الحال فإن افتراضي ليس قطعياً على أن الحياة كلّها أنوار، لكنني فضلت في تلك المرة أن أبتعد عن الأركان المظلمة فيما يخص ذلك الشأن قبل أن أغدو إلى فراشي أحتضر الموت وأوصي أبنائي بالأمور البديهية المعتادة في مثل تلك المواقف، كونوا آباءً لأبنائكم .. كأن هذا جديد؛ تبّاً لأفكار الموتى، لماذا لا يغدون للموت في هدوء؟ حسنٌ دعنا من ذلك .. المهم أنها أكثر اللحظات قسوة على قلوب الأبناء حتى وإن كانوا مسنّين، لحظة يدركون فيها أن طفولتهم قد انتهت تماماً، لسيت طفولتهم فحسب، بل انتهى كل شئ، كل الأبطال الخارقين فارقوا الحياة، ؛

مَن قتل الصرصور؟

مَن صاد الوطاويط ليلاً بينما أنت نائم؟

مَن قتل الأسود وفتك الضباع وإلتهم أفعى الأناكوندا؟

مَن شارك في غزوة بدر؟

مَن مَن مَن؟ لا أحد، تدرك أن أحلام الطفولة قد ذهبت ولن تعود أبداً.

وددت لو أطلت الحديث وكررته في ذلك الأمر لكني لست على سعة كافية من الأفق التي تقودني لأصف مرحلة (الأهواء) على وجه التحديد كوني لم أصير أباً بعد، حتى مراهقتي لازمها مرض أمي ووفاتها- يرحمها الله-، فلم أكن مراهقاً مثاليا يعود للمنزل كل يومٍ في آخر الليل ويدخّن لفافات البانجو الردئ ويقامر ويواعد القاصرات، لكني أعدك أنني سأتحدث عنها- إن أراد الله- بإحكام أكثر في مراهقة أبنائي؛ وربما ستكون مراهقتي أنا الآخر؛ وإلى أن يحين آوانها سنتحدث في قضايا أخري غير هادفة .. فإلى لقاء.


  • 5

   نشر في 09 فبراير 2019 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا