أن تطعن السيف بوردة ... - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أن تطعن السيف بوردة ...

  نشر في 25 يونيو 2015 .

بين الليل والنهار ، و كل ما بينهما من أسرار، تجد الأيام تحملنا بين كل الأحوال ، تنقلنا على حبات الندى التي ترقى بأرواحنا إلى حيث تجد راحتها...تلك الراحة التي لا يجدها إلا الصابرون، على ماذا هم صابرون...على أشياء كثيرة قد تراها العين و أشياء لا نجد لها سبيلا...و تلك كانت قصة الوردة والسيف...

فقد كان في بلاد بعيدة عن كل عين ، قريبة من كل إحساس ، عباد لله لا ندرك لغة ألسنتهم ، لكنهم كما الشمس والقمر هم كذلك يمسون و يصبحون ، يولدون و يموتون، يفرحون و يحزنون و كذلك يقفون أمام ما خلق الخالق فيتذكرون ...

ففي أحد تلك المرات، كانت وردة يسميها الناس وردة الجبل ،تستيقظ كل صباح ، تفرد قامتها ، تنبعث من بين أوراقها و تبدأ يومها ، يومها الذي تقضيه واقفة تحت شعاع الشمس و مستسلمة لأخواتها من نسائم الهواء العليلة ، لا تملك غير بسمة و عطر تنشرها من حولها ، فتعطي للمار بجنبها كل ما يجعل نهاره ذا ريح و طعم آخرين ...

"صباح الخير يا جيراني" قالت لما حولها من ورد ، و هم لا يزالون في النوم العميق غارقون

"استيقظوا فاليوم أول أيام الربيع ... أم أنكم نسيتم لون الربيع، و طعم الربيع ، أو ربما حتى روح الربيع ..." قالت

"نعم نعم إنه الربيع" صاحت إحدى الوردات ، و تابعت :" لا عليك، فاليوم سيأتي من ينزع أوراقنا و يقطع أعناقنا ، فنستيقظ و نلقي التحية عليه و ننتظر مصيرنا "

ابتسمت وردة الجبل و قالت :" شؤم شؤم شؤم ، يا الله عليك يا متشائمة الربيع ، ألا تقولين سيأتي الربيع ، و نلعب مع الطفل الوديع ، نعطيه من عطرنا فيعود في كل عام إلينا علنا نلعب من جديد...".

"ها قد بدأت تغني " صاح سياج الحقل.

قالت " صباح الخير يا سياج ، بل دعني أقول ، صباح الربيع "واتجهت برأسها نحو السماء غير عابئة بما تسمع ... فكما لنا القرار في أن ندع حبات الهواء تدخل أسجادنا فتعانق أرواحنا و تحملها إلى رقي السماء ، لنا كذلك الخيرة أن نحيد ببصرنا عن كل ما لا تحب أفئدتنا سماعه...

و أتى الناس ليتمتعوا بالربيع، يلعبون حوله، يطاردونه خلف الأشجار و على جبهة البراري، و في آخر اليوم...يقطعون ما أرادوا من تذكار، عل التذكار يعيد إليهم بعض من تلك اللحظات التي عاشوها و هم يتجمعون حول مدفئة خلال الشتاء...

و من بين ما جمعوه كان وردة الجبل قطفها طفل صغير، ما كان يدري ما معنى الورد، ولا معنى عطر الورد، بل ولا حتى لون الورد...لكن شيئا شده إليها فانخطف قلبه قبل أن تقطفها يداه ...و غادرت صديقتنا حقلها ، واتجهت إلى أين ...إلى مزهرية ربما أو على قميص بنفسجي جديد يلبسه الصبي في يوم العيد ...الحقيقة أني لا أدري...فلنتبعه

كل لحظة تمر ، كانت تنقص من عمر وردة الجبل ، فهي لا تستطيع العيش بعد خروجها من الحقل إلا ليلة واحدة ...و قد كانت تعلم ذلك، لكنها لم تعترض يوما على تقدير العزيز الحكيم ، و أما الفتى الصغير فحكايته بدورها أغرب ، أو لأقل أبعد عما تكون في تكوينها عن قصة الوردة ، فلقد كان له هبة من الله أن يكلم ما حوله من جماد و حيوان ، فيرى ابتسامتها حين يغمض عينه، و يسمع كلامها حين يركن إلى السكون ، و لا يعلم بقصته أحد ، فقد اعتاد ألا يبوح بأسراره سوى لمن يدخل قلبه و عالمه ...

و حين وصلا بيت الفتى، هرع إلى مزهرية كانت بالقرب من سريره ، ملأها بالماء ، و وضع فيها الوردة و جلس بجانبها ، فكما تشعر أرواحنا بالوحدة أحيانا فكذلك هي روح الورد ، أخذ يحدق فيها ، يتمتع بجمالها و يسبح الخالق على ما يراه أمامه من حسن و جمال ، و على ضوء القمر كانت كأميرة خرجت تطل على حديقتها فتشع بها نورا... فأخذا في الحوار.

كان هو أول من تحدث فقال :" مساء الخير ، كيف حالك يا وردة الجبل؟"

قالت :"أتستطيع الكلام مع الورد ، مساء سعيد هذا رغم أنه آخر مساء في عمري ، الحمد لله الذي حقق أمنيتي و صدق شعوري "

قال :"آخر يوم ؟ لم أدري ذلك قط ، أخبريني ما القصة "

قالت :"القصة يا صغيري ، أنه في كل مرة نقطف فيها و نغادر الحقل ، لا يبقى من عمرنا سوى يوم واحد ، فكذلك شاء العزيز الحكيم، و ما أنا بمعترضة على حكمه "

قال :" أرى ذلك والله ، و لا أدري أأقول أني سعيد الحظ بأن تعيشي آخر ليالي عمرك عندي ، أم أحزن لذلك ، فكما للفرح فينا وقع جميل ، فكذلك لحبات الحزن حين تتساقط علينا وقع ذا طعم آخر ، فتعلمنا ما لم نتعلمه في لحظات الفرح ، فلولا العطش ما أدركنا نعمة الارتواء، و لولا الظلمة ما أدركنا قيمة الضياء"

قالت مبتسمة :"صدقت ، في كل مرة نصادف شيئا جديدا في الحياة و لا ندرك معناه ، فإنه يوقفنا للحظات ، لحظات كفيلة بأن تعلمنا الكثير ، فما هذه الحياة إلا رحلة للتعلم ، و عساني قبل أن أنصرف إلى حياتي الأخرى، أن أبلغك أمانة عساك تحفظها "

قال:" أسأل الله أن يجعلني من الحافظين" و أخذ يطأطأ رأسه ليستمع كما يستمع التلميذ لمعلمه ...

قالت :"أرى فيك الخير الكثير ، استمع يا صغيري ، أتدري متى ندرك حقيقتنا ، حين تصير أرواحنا حرة الأفق ، لا تسجنها فكرة، و لا يقيدها غيظ أو يسجنها حقد أو حسد ، من أخطأ في حقك أسرع في المسامحة ، و من قسى عليك أسرع في رحمته ، و من بخل عليك فأسرع في كرمه ، تعود العطاء ، و إن لم تجد ما تعطي ... فكلمة طيبة و ابتسامة صادقة ،أثقل من كنوز الدنيا ، اعلم يا ولدي أن الأيام قصيرة كما ترى ، لا تضيعها في عتاب أحد غير نفسك إن قصرت ، بل ازرع اليوم لغدك ، و كن صبورا ، مسامحا ، لا تبتغي العلو في الأرض ، تجرد من غضبك تفتح لك خزائن الحكمة ،و تجرد من حب التملك تفتح لك خزائن الرضى و الشكر ، عش متواضعا ، أقرب ما تكون إلى الأرض ، مرفوع الهامة مستقبلا نسائم الريح ببسمة ... و إن قابلك أحد بسوء ، فكن كمن يطعن السيف بوردة... لا خوفا من السيف ،و لكن خوفا من أن يأذي أنين الوردةالسيف…"

قال الفتى :" ما أزيد بعد كلامك شيئا يا سيدتي ، و عساني أن أكون تلك الوردة

أغمضت وردة الجبل عينها في إغماضة أخيرة، و لم تنسى ابتسامتها المعهودة ، تلك الابتسامة التي إن لم تغير في الظاهر الكثير ، لكن في روح ذلك الفتى ، أرى لها وقعا عظيما...

فالأيام تمضي ، و العمر بدوره لا يتوقف ليرتاح من مسيره ، هو مكلف بأن يوصل أمانته التي كلفه الله إياه في وقتها المحدد ، و ما علينا إلا أن نعيش بحكمة الوردة، وردة الجبل ...فأحوالنا لا تبقى على حال ، نتقدم و نتأخر، نتغير و نتغير ، لكن ما من شيء يستطيع أن يغير فينا إلا بملكنا...و إن أصابنا قرح كما أصاب القوم، فلنوكل أمرنا لربنا و نقدم له هدية ...هدية كوردة الجبل...رحم الله وردة الجبل.


  • 4

   نشر في 25 يونيو 2015 .

التعليقات

هدى وضاف منذ 9 سنة
خاطرة جميلة
0

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا