على الرصيف البارد حيث حثثت خطاي هربا نحو سيارتي من الرياح الباردة التي تلسع ماظهر من وجهي.

سمعته ينصح احدهم على الهاتف "كن مع الموجه و دع عنك خالف تعرف". سكت قليلا بعد ان رشقه الطرف الاخر ببعض الكلمات كما يبدو ثم اردف مشددا على حروفه"حتى وان كنت على حق" تباطأت خطواتي لا إراديا حين تلقفت اذناي ماقاله. غص عقلي بها رغم انها لاتتجاوز كونها بديهية. كم من مفارقات تحوي هذه الجملة. وهل هي حكمة قويمة ام ضعف. هل هي نعمة مريحة ام نقمة. هل هي مشكلة ام حل. علم ام جهل. تخاريف ام منطق يدعو الى السلام. كم من الخلافات في وجهة نظر بسيطة احيانا سببت الما وربما فرقه. وصلت الى سيارتي مرتعشا واغلقت الباب خلفي. راقبته دون ان احرك ساكنا. لا ابصر شيئا سواه. لم اعد قادرا على سماعه. ولكن عقلي بدأ بتنسيق الكلمات المتدافعة داخله مع حركة شفاه الرجل امامي. فبت اسأله واسمعه يجيبني.

قلت له سيدي الفاضل اولم تسمع بالمقولة الحكيمة "اختلاف وجهات النظر لايفسد في الود قضية".

سمعته يزفر ضحكة مستنكره لم تجد طريقها لشفاته "نعم. ولكن هل كل البشر حكماء، اولم تزدان كل الحكمة بجمالها وبريقها وهيبتها الا لندرتها". علمت ان الرجل سيكون مرواغا، او بالأحرى يريد سحبي الى اعماقه. فقذفته بحجة سريعة متعجلا انتصاري "اينشتاين ياعزيزي لم يسر مع الموجه وخالف الجميع" .

سكت قليلا لارى تأثير كلماتي عليه. لاشيء سوى ابتسامة ثقه لم تعجبني، فتابعت " كوبيرنيكوس وغاليليو لم يسكتا ايضا حينما علما ان النظريات السائدة عن مركزية الارض خاطئة. خالفو ودحضوا، لم يكونو ضعفاء كما تنصح صاحبك ان يكون". اسمترت الابتسامه على الرجل قبل ان تبترها اولى كلماته"وهل حياهم وباركهم المجتمع؟". اثار حفيظتي سؤاله لمعرفتي الى اين يود الذهاب به. اكمل قائلا "هل خالفوهم صباحا واجتمعوا بهم ليلا قائلين اختلاف وجهات النظر لايفسد بالود قضية، لربما كان اينشتاين اوفر من ذكرت حظا رغم انه قذف بالغباء والهرطقة العلمية. اما الآخران فقد عُذّب اولهم وسجن اخرهم! اتعلم لماذا؟ لانهم كانو على حق ههههه فلو كانو مخطئين لدحضوا حجتهم بحجة قاضية تفنيها ثم تركهم اضحوكة سائرة، لا احد ياعزيزي يطبق حكمتك هذه ويجعلها مسلكا لايحيد عنه، على الاقل حسب باعي الطويل في الحياة. فإن كنت انا محقا جعلت منك اضحوكة، وان كنت انت المحق شجبتك بأي طريقة ممكنة"

تحدثت بعد ان انهى كلامه اخيرا "لا يعني الخلاف بالضرورة ان يكون احدهم مخطئا"

- عندها لن يكون خلافا، فلا يحدث الخلاف الا ان اعتقد احدهم ان الاخر مخطئ بالضرورة. وليس هذا ماتحدثني عنه او ما تنطبق عليه امثلتك. ولو سارو اولئك الرجال مع الموجة لكانت حياتهم البائسة اكثر نورا وسعادة.

- اولئك رجال لم يبحثو عن السعادة انما عن دفع المجتمع الى الامام حتى وان كان على حساب سعادتهم.

- احسنت. فالسر هنا بما يكمن في صميم بحثك. على صعيد المشاعر، ان كنت تريد السعادة فسر مع الموجة وان كنت باحثا عن البؤس فحاول ان تثبت انك محق دائما. انا اتحدث على الصعيد الشخصي هنا، والشعور الذي يريد ان يصل له الشخص. وصاحبي الذي كنت اهاتفه قبل قليل كان بسيطا من النوع الاول، ولو كنت اخاطب كوبيرنيكوس على الهاتف لتغيرت كلماتي له، حيث ان امثاله ترجح عنده الغاية دوما على كفة مشاعره. اما الان فالسؤال هنا هو اي النوعين انت؟

شعرت انه قد اضاق الخناق علي خصوصا بعد ان وضع لي سؤالا كلا جوابيه يعنيان ايماني بما قاله. اغضبتني مرواغته الاخيرة فهربت مني هذه الكلمات "يبدو انه نقاش لن يخرج احدنا منه بفائدة، وأعذرني فلا ارغب باضاعة وقتي اكثر من ذلك" اخترقتني نظرته الاخيرة وشعرت انه التمس مافي دواخلي. تبدت لي ابتسامته "اختلاف وجهات النظر لايفسد في الود قضية" قالها ثم توارى بعيدا.