مفترق طرق قوافل الأندلس - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

مفترق طرق قوافل الأندلس

جيّان أم خاين؟

  نشر في 30 أبريل 2020  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

للسفر متعة خاصة وللاستعداد له لهفة مميزة، ولطالما بحثت عن الفرص التي يمكن أن أسافر من خلالها لهدف أو غرض محدد وليس كسائحة. أن تعيش مع سكان البلاد التي تسافر إليها وتسكن في منزل يجاورهم وتكون بينهم وترتاد نفس المحلات والمطاعم والبنوك وشركات التأمين التي يرتادها السكان المحليون وربما تواجه نفس المشكلات التي يواجهها بعضهم هو ما يجعل التجربة تجربة سفر بحق. لم أحب أن أسمى سائحة يوماً ما ولا أن أندرج تحت قائمة السياح والزائرين، بل كنت دائماً أحب أن أشارك سكان البلاد التي أقصدها في ممارسة طقوس حياتهم اليومية- طبعاً تلك التي لا تتعارض مع قيمي ومبادئي ومعتقداتي.

"برنامج التبادل الطلابي في إسبانيا مع جامعة خاينUniversity of Jaén للفصل الدراسي الأول 2017-2018." من بين عشرات العناوين التي ظهرت في بريدي الالكتروني الجامعي عندما قمت بتسجيل الدخول، كان هذا العنوان- الذي لفت انتباهي أكثر من غيره- هو نقطة الانطلاق لتجربة العيش والدراسة في إسبانيا.

ومثل أي طالبة جامعية على وشك أن تبدأ سنتها الجامعية الثالثة، لكنها طموحة لكي تستكشف العالم من حولها وحريصة على عدم تفويت أي فرصة سفر، تفحصت الشروط المطلوبة ولحسن الحظ كانت جميعها تنطبق علي. وبعد تجميع الوثاق المطلوبة من رسالة ترشيح من عميد الكلية ورسالة توصية من رئيس الدائرة وكتابة رسالة دافعية وسيرة ذاتية وتقديم قائمة بالمواد الدراسية التي أريد أن أدرسها، تم قبول طلبي للمشاركة في البرنامج. وما بين محاولة التقديم والحصول على فيزا لدخول إسبانيا كنت قد تعاملت مع جميع الدوائر الحكومية وشركات التأمين في البلاد، فمن أجل تجديد جواز السفر والحصول على شهادة حسن سلوك وشهادة خلو أمراض وعمل تأمين سفر لم يبقى دائرة حكومية لم اضطر للتواجد فيها في ذلك الوقت. استخراج الوثائق وتصديقها وتقديمها للقنصلية الإسبانية كان مغامرة من نوع آخر. ربما أحتاج لعشر صفحات لكي أتحدث عنها وأعطيها حقها لذلك نؤجلها لوقت لاحق.

بكل حماس ودافعية هبطت في مطار مدريد في بداية شهر سبتمبر/ أيلول عام 2017 واستقليت الحافلة لكي أصل إلى مدينة خاين Jaén، وكلمة خاين يرجع أصلها إلى الكلمة العربية جيّان وهو الاسم الذي أعطاه العرب والمسلمون لهذه المدينة، حيث أن كلمة جيّان تعني مفترق طرق القوافل. تقع مدينة خاين في إقليم الأندلس في جنوب إسبانيا على تلال جبال سانتا كاتالينا حيث يوجد على رأس التلة المطلة على المدينة قلعة سانتا كاتالينا. ومن المعالم التي تزين المدينة أيضاً كاتدرائية خاين التي تبدو عند النظر إليها من أعلى القلعة كبناء تاريخي رائع يتوسط المدينة، بالإضافة إلى الحمامات العربية ومتحف مدينة خاين الذي يضم كثيراً من الآثار الأيبيرية. ويحد مدينة خاين مدينتي غرناطة وقرطبة حيث أنها تبعد عن غرناطة حوالي نصف ساعة وعن قرطبة ساعة تقريباً. وما تلبث أن تدخل المدينة حتى تراها خضراء يانعة تتزين بأشجار الزيتون من كل ناحية وكأنها ترحب وتستقبل بها كل من يأتيها متباهية بكونها العاصمة العالمية لزيت الزيتون. وبالنسبة لفلسطينية مثلي ارتبطت أشجار الزيتون في ذاكرتها بالأرض والمقاومة والشعر فقد تراءى أمامي نص شعري لمحمود درويش كان يجب أن نحفظه أيام المدرسة يقول: لو يذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعاً.

وفي صباح اليوم التالي كنت أجلس في مكتب التسجيل في جامعة خاين حيث سجلت المساقات الدراسية التي أريد. وكالعادة كنت أحاول أن أجمع بين شغفي في المواد العلمية واستمتاعي بدراسة الأدب، لذلك كنت قد اخترت ثلاث مواد علمية ومادتين أدبيتين، ولأن معظم المساقات تدرس باللغة الإسبانية وبعضها باللغة الإنجليزية، فقد تنوعت لغة المحاضرات التي أخذتها. بالنسبة للمواد العلمية فلقد كانت المختبرات العلمية مكاني المفضل ليس لأنها مكان للتعلم فقط بل لأنها أفضل مكان لإثبات صدق التجارب من عدمها ولمعرفة التجارب الناجحة عمن سواها، ومختبرات جامعة خاين كانت مهيئة بشكل تجعلني أتمنى لو أقضي اليوم كاملاً هناك. ثم هناك المواد الأدبية التي لم تقتصر على الأدب الانجليزي فقط ولكنني درست الأدب الإسباني أيضاً، وتعرفت على أسماء وأعمال كتّاب وشعراء وراوئيين إسبان ما دفعني إلى التعمق أكثر في أصول بعض الكلمات الإسبانية لأكتشف أنها جذورها تمتد من اللغة العربية لتتغير قليلاً وتصل الإسبانية، وفي بعض الأحيان يُنقل الجذر كاملاً دون أي تغيير وتصبح الكلمة بمفردها ولفظها ومعناها من العربية.

في اليوم الثالث وبعد أن عدت من الجامعة، دعتني صديقتي الإسبانية التي كانت تقيم معي في ذات الشقة السكنية إلى تناول طعام الغداء في أحد المطاعم التي تقع في شارع الأندلس وفعلاً ذهبنا. وبينما كنت أنا أمسك قائمة الطعام أنظر إلى أسماء الأطباق الغريبة وأحاول ترجمة بعضها وألجأ إلى صديقتي لمعرفة البقية، كانت هي تعرف ماذا تريد دون أن ترى القائمة. نظرت إليها وقلت: حقاً لا أدري ماذا أطلب، لم يسبق لي أن جربت أياً من هذه الأطعمة، فقالت: ربما تودين تجربة أحد أطباقي المفضلة، قلت: ولم لا. ثم طلبتْ باذنجان ونظرت إلي وسألت: مع العسل؟، وبدا لي هذا التناقض غير مفهوماً. إنه اليوم الثالث لي في إسبانيا وأجلس في مطعم إسباني ولا أعرف شيئاً من الأطباق الموجودة وصديقتي الإسبانية تطلب الباذنجان مع العسل، والذي يسمى باللغة الإسبانية berenjenas con miel. وبينما تطلب هي عصير الخوخ أفضل أنا عصير الأناناس، ونشرب العصير ريثما يجهز طبق الباذنجان بالعسل وأناقش أنا صديقتي في هذا الطبق الغريب. بدأت تشرح وتقول إنه من أكثر الأطباق التي تشتهر بها مدينتي خاين وغرناطة وبعض مناطق الأندلس الأخرى، ويحب الناس هنا أن يأكلوه في كل الأوقات إلا أن البعض منهم يفضل الباذنجان لوحده دون العسل بالرغم من أن الطبق مكون من كليهما. وما أن انتهت من حديثها حتى رأينا على الطاولة التي نجلس عليها صحن يحتوي على شرائح باذنجان ذهبية ومقلية ومقطعة بشكل دائري وبجانبه علبة عسل أمسكت بها صديقتي ووضعت القليل فوق الشرائح التي في الصحن. وأمسكت أنا أول قطعة وتذوقتها وبدا المذاق غريباً بعض الشيء ولكن القطعة الثانية جعلتني أعرف لماذا تفضله صديقتي ويفضله أغلب الأندلسيون ومع آخر قطعة في الصحن كدت أن أجزم أنه أفضل طبق أكلته في حياتي. ربما يبدو هذا المزج بين الباذنجان والعسل غريباً ورؤيته لأول مرة في الصحن أكثر غرابة ولكن طعمه شهيّ جداً ومميز. أنصحكم بتجربته إذا أتيحت لكم الفرصة لزيارة إسبانيا يوماً ما!

شارع إشبيلية- عمارة رقم 8- الطابق الأول، كان هذا هو عنوان الشقة السكنية التي أقمت فيها في ذلك الوقت. وفي غرفة تطل نافذتها على شجرتي برتقال كنت دائماً أنظر إليهما وأتساءل في نفسي كم لبثتا من السنين وكم حدثاً تاريخياً شهدتا؟ وكحال أشجار الزيتون فإن أشجار البرتقال ترمز في ذاكرتي إلى الرحيل والهجرة والتّنقل وتجعلني أستحضر اقتباساً من قصة أرض البرتقال الحزين لغسان كنفاني يقول فيه: "كنتم مكومين هناك بعيدين عن طفولتكم، كما كنتم بعيدين عن أرض البرتقال ...البرتقال الذي قال لنا فلاح كان يزرعه ثم خرج، أنه يذبل إذا ما تغيرت اليد التي تتعهده بالماء." وقلت في نفسي ربما لم تذبل أشجار برتقال الأندلس لأن يد السماء هي التي تعهدتها بالماء.

كان يوم الرحيل صعباً وتوضيب حقائب السفر للعودة أصعب مما تخيلت، وكيف لا يكون كذلك وأنا أستعد لتوديع الفردوس المفقود. وفي النهاية لا يسعني إلا أن أقول: إن الأندلس عاشت فيّ أكثر مما عشت فيها، وأنني رحلت عنها ولكنها لم ترحل عني!


  • 4

  • رغد بحر
    باحثة بيولوجية، حاصلة على درجة البكالوريوس في العلوم الحياتية من كلية القدس بارد في جامعة القدس. عملت في مجال الأبحاث وفي مجال تدريس اللغة الإنكليزية والترجمة. حاصلة على جائزة أفضل بحث في مؤتمر جامعة القدس.
   نشر في 30 أبريل 2020  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

شاعر النيل منذ 4 سنة
عاشت تلك اللحظات جميلة وتبعث الأمل
احسنتِ
1
Dallash منذ 4 سنة
احسنت فعلا
2
رغد بحر
شكراً لك!

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا