الديماغوجية.. فن تحييد العقول..! - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الديماغوجية.. فن تحييد العقول..!

تأتي خطورة الخطاب الديماغوجي في كونه لا يحوي أي رصيد واقعي أو قيمة حقيقية، ويتم إستخدامه للترويج لأخطاء جسيمة وتبرير خطايا فادحة، وكذا للتساهل السياسي إن صح التعبير، وهو ايضاً يفتقد إلى التفهم للألم الجمعي والإحساس الصادق بنبض المجتمعات ومعاناة الشعوب، فكل شيء يجب أن يبدو على ما يرام..!

  نشر في 04 ديسمبر 2021  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

الديماغوجية.. فن تحييد العقول..!

بقلم/ محمد أحمد فؤاد

مغزاها السياسي يعني بمجموعة أساليب وأنماط الإدارة التي يتبعها السياسيون والحكام لخداع الشعوب وتخديرهم، وإغرائهم ظاهرياً بعكس الواقع بهدف الوصول للسلطة والبقاء فيها بما يخدم مصالحهم على حساب أدوارهم الحقيقية.. والمصطلح لغوياً عبارة عن تركيبة مشتقة من الكلمات اليونانية "ديموس" وتعني شعب و "غوجيا" وتعني قيادة، لكنها هنا قيادة بالوهم أو التضليل وليست بالضرورة القيادة السليمة أو النبيلة..

قد تتساوى الغوغائية والدهمائية مع الديماغوجية في المعنى، لكن يظل للأخيرة ملمح استراتيجي يهدف إلى الحصول على السلطة وكسب القوة السياسية من خلال مناشدة عواطف التكتلات الشعبية في العموم معتمداً في هذا على توظيف مخاوف وأحلام وتوقعات الجماهير المسبقة لصالح الحاكم في المقام الأول، ويكون له في هذا مسلك إستخدام الخطابات والدعاية الحماسية ذات النزعة القومية بما فيها المناورات والحيل السياسية التي غالباً ما تظهر كسلوك إستباقي خلال حملات الإنتخابات والتسويات الحزبية أو خوض المعارك السياسية أو الحربية ..!

بالطبع يكون للخطابات الحماسية والمظاهر البراقة والحضور الجاد وقع السحر، بشكل قد ينقل الإنسان من واقعه الحقيقي إلى مساحة من الخيال والوهم، لأن الكلمات المنتقاة بعناية والصوت الرخيم والمظهر المتباسط هي أدوات استثنائية غالباً ما يستخدمها الحكام والولاة والسياسيون ورجال الدين لأنها تسحر الآذان والأبصار وتغزو عقول البسطاء بما تتضمنه من جحافل المصطلحات والمفردات التي تلعب دور هام في تشكيل الأفكار والمفاهيم والمعتقدات، ويتم تسويقها رسمياً عن طريق الدعاية المبهرة التي لا تخلو من وسائل الغواية والتضليل والزخرفة الخالية من المضمون، والتي غالباً ما تحقق صدى ووقع مباشر في المجتمعات المهمشة والأوساط الجاهلة إذا ما صاحبها بعض المغريات المادية..!

وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى «يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً»، أي يمد بعضهم بعضاً بوسائل الخداع والغواية، ويزين بعضهم لبعض عداء الحقيقة وحربها والمضي في هذا إلى أبعد مدى قد يصل إلى قمع وإقصاء الفكر المغاير، وهو ما يمكن وصفه بسهولة بالإستبداد والديكتاتورية، فالإيحاء هنا يعني إلقاء الكلام المموه والمزين الذي لا يحمل في طياته أي معنى حقيقي ليضل الناس عن السبيل والفطرة السليمة، ويحيدهم عن حقوقهم ومكتسباتهم الضرورية.

هذا ويعد أفضل تعريف لمصطلح الديماغوجية هو «الإيهام بالكلام»، وتعتبر الديماغوجية مع الأسف زاداً يومياً لكثير من السياسيين في العالم، وفي عالمنا العربي على وجه الخصوص.. وهي تكاد تشكل مع الشعبوية ثنائية لغوية خاصة تهدف لإستعادة للسيطرة على الشعوب في عصر الإستقطاب السيبراني والعولمة، وفي غياب الرموز القيادية الإستثنائية.. وبالطبع يكون الهدف منها هو التصدي للثورات الشعبية التي اجتاحت وما تزال رقعة شاسعة من خريطة الشرق الأوسط وأحسبها ستظل تهدد العروش الإستبدادية إلى أن يتحقق هناك الحد الأدنى من العدالة الإجتماعية.. ولا شك أن هذه المفاهيم ارتبطت أساساً بالعمل والخطاب السياسي سعياً إلى الثبات في موقع السلطة، وربما ارتبطت أيضاً بمسالة تسويق سياسات اجتماعية وثقافية واقتصادية وقيمية بغرض إحداث ثغرة في الموروث الثقافي مما قد يحقق بعض التفوق أو السبق لطرف على حساب الأخر في مسار صراع الحضارات الحالي.. ولدينا من الشواهد في العالم العربي ما يدلل على حدوث صدام حالي وصل لحد الإصطراع بين الفكر الإسلامي بكل مستوياته وبين العلمانية واللا دينية وجهاً لوجه، وفي هذا يحاول كل طرف كسب واستعطاف الجماهير لصالحه بشكل صريح، ومؤخراً أخذت هذه الظاهرة في الإتساع إعلامياً وسياسياً بفعل الثورات والثورات المضادة، ووصلت لحد من التراشق الصريح مع سعي كل طرف لاستمالة الناس ضد الطرف الآخر بكل السبل الممكنة، وأدى هذا إلى حدة الاستخدام الديماغوجي في الخطاب السياسي والشعبي بغرض إحداث التأثير المطلوب على الأفراد والمجتمعات، وتحييد أي قوى معارضة لضمان الإستمرارية في السلطة..!

هم يلجأون إلى استدرار العواطف والمظاهر البراقة والأضواء المبهرة، واللعب على المخاوف وتقديم الوعود الكاذبة الخادعة المضللة باستخدام تعبيرات مطاطة إنشائية يسهل توظيفها حسب مقتضيات الحال، وبالطبع تتفانى وسائل الإعلام المملوكة لتلك الأنظمة وأجهزتها الرسمية، ومجموعات الدعم السيبراني المسماة بالذباب الإلكتروني على وسائل التواصل في التصدي بضراوة لأي موجات من المعارضة أو محاولات التوعية بهدف إعادة التوازن للشارع السياسي..

في عالمنا العربي كان للخطاب الشعبوي الديماغوجي دور كبير في تثبيت سلطة الأنظمة الحاكمة ملكية كانت أو جمهورية عبر استغلال البُنى التقليدية كالعشائر والقبائل أو الطوائف الدينية كغاية، وكانت الوسيلة هي الإبقاء على الجهل في صفوف هؤلاء، والحفاظ على مزاج عام يخضع للعادات والأعراف الموروثة ويقدس نظرية أبوية الحاكم، هذا بالطبع لتسهيل إحكام السيطرة على العوام، وقد دأب السياسيون والطامحون بالسلطة على اللجوء إلى تلك الحيلة الشعبوية منذ القدم وصولاً إلى العصر الحديث في كل أنحاء العالم تقريباً، من أمريكا اللاتينية إلى آسيا مروراً بأوروبا والعالم الجديد وإفريقيا، وممن اشتهروا بالخطاب الديماغوجي على سبيل المثال أدولف هتلر وبينيتو موسوليني وونستون تشرشل وجوزيف ستالين وماوتسي تونغ وفيديل كاسترو وجمال عبد الناصر ومعمر القذافي، ودونالد ترامب، وغيرهم من القادة في العالم الذين استخدموا أدوات ديماغوجية تتراوح بين الرومانسية الثورية وبيع الأحلام، إلى الإقناع بالقوة لتثبيت ادعاء أنهم صوت الجماهير وضميرها، وأنهم الأحق بتمثيل الشعوب، ومع الأسف مارس بعضهم حملات التقويض الاجتماعي، ووصموا معارضيهم ومنتقديهم بالخيانة أو العمالة، والخروج على الصف الوطني والعداء للأمة، وبالتالي نجحوا إلى حد بعيد في إستثارة الجماهير ضد المعارضين لإستئصالهم بوصفهم خونة للشعب والأمة، وإستطاعوا مع الأسف تغييب حقيقة أن أغلب هؤلاء هم في الأساس مدافعون عن الحرية والديموقراطية وهدفهم تحقيق العدالة الإجتماعية وتفعيل تداول السلطة.

مشهدنا اليوم في أغلب الأقطار العربية هو بالضبط خطاب شعبوي أقرب إلى العبث.. فهو مُبْهَمٌ وعاطفي، لا يعتمد أفكار أو رؤى منطقية وثابتة، بل يميل فقط إلى إثارة الحماس وإلهاب المشاعر ليتماشى مع المزاج العام، وهو في نظري نمط من الإحتلال الفكري غير المباشر مع الأسف يختاره صُنّاع الخطاب كل حسب قدراته ليبدو على أنه سائد، ولكن دون أن يفيد أو يحقق أي تطور نوعي.. ومن ناحيةٍ أخرى عند حتمية التعامل الجدّي والمسؤول مع المشاكل الواقعية والأزمات، نجد أن الخطاب الشعبوي الديماغوجي يُكثر من التركيز على وردية الحلم وتبسيط الأمور بشكلٍ إستعراضي أقرب إلى الهزل، ويأتي هذا لإفتقاره إلى روح الإبتكار والإبداع، وتجده دائماً ما يعود إلى التاريخ الذي يتعمد استحضاره واستخدامه أو إعادة تدويره كوسيلةٍ أيديولوجيةٍ ذات بعد انفعالي شديد التأثير على عواطف العوام دون أن يحتوي كلام المخاطب على مقدمات واقعية قد تقود إلى نتائج تتناسب مع تلك المقدمات، إلى أن تنتهي الحالة برمتها إلى خانة النسيان، فكل همه اعتناق الجمهور لفكرته حتى لو كانت زائفة، ودفع الجمهور إلى الاعتقاد اليقيني بصحة ما يقال بدون التفكير في الارتباط النصي والنسقي بما يقال، ودون تأويل للكلام أو المسائلة والمراجعة أو تفعيل رقابة من أي نوع، الأمر الذي يقود إلى حالة من الخلط والمغالطة المقصودة لترويج الأفكار المرغوب بإقناع الناس بها حتى لو كانت وهمية..!

تأتي خطورة الخطاب الديماغوجي في كونه لا يحوي أي رصيد واقعي أو قيمة حقيقية، ويتم إستخدامه للترويج لأخطاء جسيمة وتبرير خطايا فادحة، وكذا للتساهل السياسي إن صح التعبير، وهو ايضاً يفتقد إلى التفهم للألم الجمعي والإحساس الصادق بنبض المجتمعات ومعاناة الشعوب، فكل شيء يجب أن يبدو على ما يرام، وقد أدى هذا إلى انتشار النفاق والفساد وتوسع دائرة الاستبداد واستشراء البيروقراطية وخنق الديموقراطية وغياب العدل وانتشار الظلم وانعدام الإحساس بالأمن ونهب المال العام والإسراف لحد السفه والتفريط في ممتلكات الشعوب وحقوقها التاريخية.. والأسوء أنه ضيق الخناق على الحريات وتلاعب بمصائر أجيال وإستخف بالشعوب من خلال ترزية قوانين ورجال دين أفاقين شوهوا الدساتير وحولوا الوطنية إلى مجرد أهازيج تمجد من لا يستحق، وتحولوا هم أنفسهم إلى سماسرة لوطنية زائفة تتفاخر بتاريخ مختلق مبني على بتر الحقائق والتلاعب بالأحداث..!

إنكار حق المطالبة بتداول السلطة هو قمة العبث.. والترسيخ لحكم الفرد هو رِدة سياسية تعود بنا سنوات إلى الوراء.. ربما وجب الحديث الأن عن المشاركة الشعبية في الحكم عن طريق مسارات سياسية وحزبية حرة وسليمة، وبالطبع لا يجب إغفال قضايا الحريات والديموقراطية والعدالة.. أيضاً وجب التخلص الفوري من فئات خدم البلاط من إعلاميين مأجورين ومثقفين مزيفين ورجال دين مدلسين من أصحاب مذهب طاعة ولاة الأمر وعدم مسائلتهم في حياتهم وبعد مماتهم، والحياة في خنوع دون طرح أي أسئلة أو إعتراض.. وإلا سيكون مصيرنا الانتظار حتى اليوم الآخر لطلب الجزاء أو القصاص من النظم الديكتاتورية وظلم الحاكم الذين أظنهم نجحوا حاشياتهم في الإستئثار بالدنيا، وها هم يريدون أن يضيعوا علينا فرصة النجاة بالآخرة سواء بالبطش الممنهج أو بفرض شريعة الغاب...


  • 1

  • mohamed A. Fouad
    محمد أحمد فؤاد.. كاتب حر مؤمن بحرية الفكر والمعتقد والتوجه دون أدنى إنتماء حزبي أو سياسي.. مهتم بشأن الإنسان المصري أولاً..!
   نشر في 04 ديسمبر 2021  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا