لست أباً - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

لست أباً

لست أباً

  نشر في 18 غشت 2015 .

تتوالى الأيام تباعاً ولا أدري تماما كيف انتقلت من بلد إلى بلد أخرى في ظروف استثنائية، حالي كحال الكثيرين ممن أعرف وممن التقيت في الغربة. وبدأت رحلة البحث عن كل أساسيات الحياة كساعة إبصارنا النور في أولى ساعات حياتنا، عالم غريب كنا قد اعتدنا على ذلك الوعاء الحنون يأتينا رزقنا بحبل موصول فينا نحصل منه على كل الغذاء اللازم وأيضاً لا حرارة تصيبنا ولا برد يضرب أطرافنا. ودون إرادة مسبقة يدق الناقوس معلنا ضرورة الرحيل إلى عالم جديد فيه ظروف حياة أخرى فيه القليل من الشروط السابقة ولكن ما تلبث أن تتغير تلك الشروط شيئا فشيئا لنصبح على هيئة لم نختارها ولم يستشيرنا أحد فيها. 

بضعة أفكار كانت تجول في خاطري لدى عودتي منهكاً من العمل بعد نهار مضن، حين رن الهاتف لأرى رقم صديق لي سبقته في عدم اتخاذ ذلك القرار والذي جلبني إلى هذا العالم بعشرة أعوام أو أكثر. فاستشعرت أنه قد اتخذ قراره هو، وقرر ترك هذا البلد بسبب مشاكل تتعلق بالأوراق الرسمية الخاصة به.

حينما آتي هو وعائلته المكونة من أبيه وأمه وأختين وأخ صغير له، ظنوا كالكثير منا، أننا سنعود بعد فترة قصيرة بضعة أيام ربما وفي أقصى تقدير بضعة شهور لنعود كل نلمم جراحنا وخطايانا ونعاود عجلة الحياة إلى مكانها، ولم نكن نحن من اتخذ القرار في إطلاق ذلك الكم الهائل من الدمار الذي حل في القرى والمدن. وبلغ صديقي الثامنة عشر ووقع في حيرة هو وعائلته الصغيرة، عليه الآن اتخاذ القرار هو وليس أحداً سواه. تلك اللحظات القليلة أثارت لدي قبل أن أرد عليه مباشرة تلك التفاصيل وكنت أنتظر منه قراره، ماذا سيفعل... كنت معتاداً على نبرة صوت مليئة بنشاط الشباب والأمل والتفاؤل أيضاً، كأي شاب لديه أحلامه الخاصة التي تضفي على تلك الفترة العمرية كثيراً من الحيوية في الصوت والحركات والنظرات، وفي كل تفاصيل الحياة. لكن هذه المرة لم تكن ككل المرات السابقة، فقد اتخذ قراره وحسم أمره. لم يقل لي شيئاً لكني قرأت ذلك من الكلمات التي نستفتح بها أي هاتف نتلقاه بالاطمئنان عن الآخر والسؤال عن صحته وإن كان مسروراً أم غير ذلك. سبقته بنقل شعوري وقلت له: "يبدو أنك حسمت أمرك وقررت الرحيل؟!"

لم يستغرب بتاتا حدثي، بل أجاب بالتأكيد محدداً موعد انطلاق طائرته في اليوم التالي.

منذ أن أصبحنا أصدقاء بأعمار مختلفة، كان يتردد علي لنتحادث، ويسألني عن أمور يدفعه فضوله في هذه المرحلة العمرية للبحث عن كل الأجوبة المتاحة. حتى أنه كان يشتري سيجارتين اثنتين واحدة له والأخرى لي كي يكسر عبء السنوات بين عمري وعمره. ورغم أنني لا أدخن لكنني كنت أجاريه..

وعدته أن ألقاه قبل انطلاقه إلى المطار، وكذلك فعلت. عاود الاتصال بي قبل ساعة من انطلاق السيارة التي استأجرها لتقله مع عائلته الصغيرة إلى المطار. وكنت أنا في طريقي إليه. كأن شيئاً كان يدفعني نحو لقائه. لم تفارق الضحكة وجهة كعادته لكنها كانت أقل حيوية، فسارعت لممازحته لعلي أخفف عنه ذلك الحمل الملقى على عاتقه. أثناء حديثنا القصير نزل والده، وكنت أعرفه من قبل رجل ممتلئ لديه نظرته ككل واحد فينا في الحياة، لا يتجاوز عمره الخمسين عاماً وقد صقلت الشمس بشرته خصوصاً في هذا اليوم.

وباشرت الأب ببعض الكلمات التي لم أعتاد على إلقائها على مسمع أحد لأنها كانت المرة الأولى أقف في مثل ذلك الموقف، فقلت له: "ستزرع إذن هذه الوردة في أرض أخرى" لم أعلم أنني بهذه العبارة البسيطة سأعصر فؤاده لتتدفق دمعة حارة من عينيه كنت أنا سببها وكان علي تدارك الأمر في إيقافها ومنعها من النزول أمام الابن الذي لاحظها لكن عقله منعه من تصديقها ربما.

تدارك الأب ذاته الموقف وسارع في إخفاء ما لديه من حزن فسيكون لديه متسع من الوقت ليعبر بالسر عن كل ما فيه من ألم الفراق الإجباري.




  • 2

  • Ahmad Aldeaa
    عربي سوري أقيم في مصر ومهتم بالأدب
   نشر في 18 غشت 2015 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا